
بقلم:هاديا سعيد*
ماما بعد عشرين سنة !
لا.. ليست حكاية كما نراها في الأفلام أو المسلسلات أو المسرحيات، حين تلتقي الابنة التي كبرت بعد أن قيل لها أن أمها ماتت بأمها فتنهال الدموع وتتسع الأحضان والقلوب وتعلن كلمة النهاية مع شعور بالسعادة لأبطال الحكاية ومن شاهدها..
لا. لم يحدث هذا في حكايتي الواقعية. حكاية بدأت برسالة وصلتني من لبنان حين كنت أعيش في العراق زمن السبعينات. الرسالة من إحدى معارف شقيقتي عن شابة في الخامسة والعشرين تعيش بمخيم. ليس لديها إلا أختا تكدح مع زوجها لتأمين معيشة أربعة أبناء.
كانت حياة شاقة لكن مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية في السبعينات، أصبحت اللقمة مثل عصفور لا يحط على غصن أو جدار..
الأخت الكبرى قررت أن تكشف أسرار العائلة، بعد رأت شقيقتها تصل إلى قناعة أن تبيع نفسها من أجل اللقمة. فقد حصلت على الشهادة الابتدائية وغادرت المدرسة لتصبح خادمة ونادلة ومتسولة طيلة عشر سنوات..
الأخت الكبرى همست: لا تضيعي نفسك يا أختي.. لنا أم في العراق اذهبي اليها! ..
هكذا فجأة فتح بئر الأسرار لتعرف الشابة أن أمها لم تمت وأنها تزوجت سائحا ثريا وهربت معه ذات يوم من زوج مقامر وسكير..
وهكذا فجأة أصبح وجودي في العراق قشة لإنقاذ شابة وكأني أمتلك عصا ساحرة ساندريللا أو مظلة ماري بوبينز !!! من هي هذه الأم؟ أين تعيش؟ كيف نعثر عليها؟ هل يمكن أن تعترف بأمومتها التي هربت منها قبل عشرين سنة؟ ..
مفتاح الوصول إلى الأم كان رقم هاتف لصديقة حميمة لها تعيش في العراق. رسالة شقيقتي المرفقة برسالة الشابة تطلب مني محاولة الاتصال بصديقة الأم والتفاوض معها لتسترجع ابنتها. كل هذا وسط صعوبات مغادرة الشابة لبنان في ظل الحرب المندلعة ومدى التوفيق في العثور على الأم ومواجهتها بماض ربما لا تريد استعادته كما يبدو..
المهم أن تفاصيل مسلسل الاتصال كانت برعاية الله والدعاء سلسة، وقبلت الأم زيارتي وباحت عن الظروف التي دفعتها للهرب لكنها في كل البوح والشرح والدفاع عن نفسها كانت تغلق على انفعالها بتعابير وجه صلب وشخصية متماسكة..
بحثت في وجهها وصوتها عن أمومة فتعذرت الرؤية. عرفت أنها لم تنجب وأن ولدين لزوجها من زواج سابق يعيشان معهما. هل ستقبل مجيء ابنتها من لبنان؟ وهل يمكنها احتضانها وإعادة تنشئتها وهي في الخامسة والعشرين من العمر بلا شهادة أو خبرة أو وعي بتجارب الحياة؟ لا مفر. قالت الأم ثم غابت لتتصل بي بعد أسبوع وتعلن أن زوجها وافق على مجيء ابنتها وأنها ستعرف بأنها قريبة لاجئة من لبنان.
في اليوم الموعود وبعد حوالي شهر لتمكن الابنة من الوصول إلى العراق برا عبر سيارات وحافلات البؤساء الفارين من الحرب، كان لقاء الأم وابنتها في بيتي في بغداد..
كنت أغلي بمشاعر تتعاطف وتحزن وتمسح دموعها خفية فيما كانت الابنة كأنها دمية صماء والأم تصل لأتوقع منها احتضانا أو إغماء فلا أجد إلا هدوءا ثقيلا يحط..
الإبنة تنظر إلى أمها والأم تدور بنظراتها في أرجاء الصالة. أهمس لهما: سلام يا حبايب فتقول الأم للابنة الغريبة: لم تتغيري كثيرا. كنت في الخامسة حين سافرت. تقول الابنة: الآن تذكرت شعرك الأسود المالس..
لا دموع.. لا حنان.. لا شهقات.. بل كلمات باردة رغم حرارة الصيف العراقي واتفاق على بقاء ضمن شروط في المرحلة الأولى..
أين الحب؟ كنت أخشى أنه مفقود، لكن الحكاية الواقعية علمتني أنه موجود وعملي وأنه يتطلب وقتا ليزرع ثم يسقى ليشق الأرض ويظهر وينمو ويكبر..
تأكدت من وجوده حين رأيت الابنة تتشاجر مع أمها في زيارة ثانية لي بعد أشهر. كانت تصيح : مش هيك يا ماما وأمها ترد: ماكو يعني ماكو!!!! لهجة عراقية وأخرى لبنانية تتعانق وكأن الأم وابنتها تتعايشان منذ عشرين عاما بين العراق ولبنان..
*روائية و إعلامية، مديرة التحرير سابقا لمجلة “سيدتي” العربية وموقعها.