اسمها يكشف هويتها بسهولة، فهي أمازيغية أصيلة من قرية اولماس. هنو العلالي معمر، امرأة استثنائية، عمرت في الطب والسياسة والعمل الجمعوي. هي واحدة من الطبيبات القلائل اللواتي تخصصن في طب النساء والتوليد بالمغرب.
استقبلت بين يديها الرقيقتين، آلاف الحيوات، وأخرجت من رحمها ستة أخرى.. ومن قلبها ترعى لحد الآن فتيات بعدد عمر السنين التي رسمت تجاعيدها، بإصرار على وجه هنو الطفولي.
تخرجت في بداية السبعينات من كلية الطب بمونبوليي بفرنسا، تخصص طب النساء. لازالت تتذكر يوم غادرت قريتها أولماس ورحلت لحالها، لتسافر على متن الباخرة وتلتحق بفرنسا حيث ستتابع دراستها. مر على تلك الفترة أزيد من 40 عام تتذكرها هنو وكأنها الأمس القريب. تتحسر على أيام العز والنضال الحقيقي، الذي انخرطت فيه وهي شابة يافعة متحمسة للتغيير وإنصاف النساء وتحسين وضعيتهن..
حملت منذ بداية وعيها السياسي، هم القضية النسائية، وكان يؤلمها حال النساء اللواتي كن مهمشات خنوعات في بلدها ولم تتح لهن فرص إبراز ذاتهن. أما هي فتقول كنت محظوظة: “أدين بالكثير لوالدي رحمه الله الذي لم يفرق يوما بين بناته وأولاده، كان يشجعهم على السواء، ويحفزهم على التعلم والمعرفة”.
بعد التخرج التحقت بالعمل في ظروف صعبة في المغرب، ولكن بإرادة قوية وبحس يروم خدمة الوطن، لم تأبه كما تقول يوما بكلام الآخرين أو لتمثلات المجتمع بخصوص المرأة. كانت مؤمنة بشخصيتها وفخورة برسالتها في المجتمع ..
في المستشفى حيث كانت تمارس مهنتها بمدينة مكناس، التقت زوجها الطبيب الجراح معمر. تقول عنه:” كان وسيما وعنيدا، ينحدرمن شرق المغرب، وكان حبي الأول والأخير. .حين التقيت به أول مرة، قلت مع نفسي إنه الرجل الذي ابحث عنه..أحببته كثيرا، وبادلني الحب نفسه.. تزوجنا في احتفال عادي، خال من البروتوكول والتباهي..بنينا معا عش الزوجية ورزقنا بستة أطفال. كنت اشتغل بجدية وتفان وتحملت تربية أبنائي بكل مسؤولية”.
رغم كل الضغوطات، كنا نؤمن بمعنى التضحية من أجل الآخرين، ونسهر على خدمة الناس. تؤكد الدكتورة هنو باستمرار على أن النضال يبدأ من الأسرة والحياة اليومية، لذلك قاومت ولم تستسلم أبدا لأي ضغط مجتمعي، حتى لما استقرت في وجدة بداية الثمانينات وسط مجتمع منغلق ومحافظ.. كانت تفرض نفسها وتعيش حياتها كما ترتضيها. وتمكنت أن تكسب حب الناس واحترامهم. لم تكن حياتها سهلة، لكنها عاشتها بالحب والتشارك. تتأسف على التراجع الذي حصل في العقليات والتشييء الذي تعيشه النساء، واللهفة على كل ما هو مادي، تقول:” مارست السياسة وأنا في سن الثامنة عشر وكانت كل العلاقات واضحة. انخرطت بجد في الحياة السياسية من أجل المبادئ الإنسانية الكبرى. تتحدث الدكتورة بحنين لزمن النضال الحقيقي، وتعتبر أن السياسة أخلاق وتضحيات.. وما تراه اليوم يشعرها باليأس.لا تحب الأضواء وتقول لكل إنسان نقط قوة في مجال ما ولهذا تفضل وفضلت دائما العمل الجمعوي. مايميز هذه الأمازيغية العنيدة أنها نجحت على كل الواجهات في حياتها العائلية والمهنية والمجتمعية.
في سن السبعين مازالت تكافح وتعطي من وقتها ومالها، بعد وفاة زوجها قررت أن تعود لقريتها من جديد وتؤسس جمعة ” ايلي” لإيواء الفتيات وتشجيعهن على مواصلة الدراسة، بعد أن عاينت هذا الكم الهائل من الفتيات القرويات اللواتي ينقطعن عن التعليم بسبب بعد المدرسة. إنه رهانها الحالي، بعد أن تفرغت كليا للعمل الجمعوي والحقوقي..
للأسف، لم تتحسن ظروف قريتها وقرى أخرى بل تعقدت الأمور أكثر، بفعل حوادث السرقة والاعتداءات. تفكر هنو باستمرار في رعاية بناتها اللواتي ينادينها ماما.. تعتبر أن المستقبل يكمن في إعداد البنات إعدادا سليما، يبدأ أولا وقبل كل شيء بالتعليم. وتؤمن أن المرأة هي أساس كل مجتمع صالح وهي القادرة على إحداث التغيير. هنو وهبت وقتها وراحتها لخدمة قضايا المجتمع القروي. لم تغريها صيحات التجميل والغولوكينغ والليفتينغ . كل همها أن تسعد بنات قريتها وتعمم تجربة الجمعية على قرى أخرى نائية. حين تسأل هنو من قبل الكثرين..لم كل هذا العناء والانتقال باستمرار بين قريتها والرباط ؟.. تجيب:” الله كافأني بأن ساعدني على تعليم وتربية أبنائي أحسن تربية، لذا أرغب في رد بعض الجميل لله وللحياة التي منحتني الكثير”. هنو امرأة دائمة الابتسامة و شخصية متفائلة، رغم الغبن الذي تشعر به تجاه تراجع القيم وتدهور السياسة وتهور النساء أحيانا، تقول:” إن الحقوق توازيها واجبات كثيرة أخرى، يجب السعي لبذلها كما يجب”..وتختم:” أنا سعيدة ولا أشعر أبدا بأن السنين تراكمت علي إلا حينما أرى وجهي في المرآة..لكن، ليس مهما كم عشت، بل كم هي قدرتك على الحب والعطاء هذا هو الدرس الذي تلقنه لنا هذه الطبيبة المناضلة البهية :الحياة بذل وعطاء بدون كلل ولاملل.
بعد هذا المسار الحافل بالعطاء، انتبه لها رفاق الأمس وبعض الأصدقاء أخيرا، وأقاموا لها حفلا تكريميا بمقر جمعيتها، اعترافا ووفاءا وتثمينا لعملها السياسي والحقوقي والجمعوي التطوعي. فكانت مناسبة لتسليط الضوء واستحضار ميسرة امرأة استثنائية من زمن الحب الجميل والنضال الحقيقي، عاشت واشتغلت بعيدة عن الأضواء.