انضموا لنا سيسعدنا تواجدكم معنا

انضمام
ثقافة وفنون

  قراءة في الإصدار الجديد “على الهامش” لياسر المنفلوطي

عن تيمتا الموت والحياة..

 

قراءة بقلم: فدوى الجراري

“على الهامش” مجموعة قصصية صادرة في طبعتها الأولى سنة  2025 تضم بين طياتها سبعة قصص ذات أبعاد فلسفية، نفسية وإنسانية في جدال صارخ بين الموت والبقاء، جدال تتجلى مظاهره الأولى منذ غلاف المجموعة الذي اصطبغ باللون الأسود مع عنوان عريض بالأبيض “على الهامش”، وظلِّ إنسان مجهولِ الملامحِ غير متناسق البنية قد يعكس دواخل هذا المتلقي أو ذاك، أو ربما دواخل الكاتب وهو يصارع حلمه في تحويله لواقع شاهدٍ على أنه ضمن فئة خلاقة مبدعة وليس على هامش الحياة، بل هو يحيى بين دروبها المتشعبة والمتناقضة المسالك، يتخبط بين الأمل واليأس، الفرح والحزن، الشجاعة والقوة، بين الوجود والعدم، بين أن يكون أو لا يكون، وإن كانت النهاية موتا محتما فعلى الأقل لن يكون المرور مرور الكرام بل بأثرٍ مخطط بمداد التحدي والعزيمة،  وفي أسفل الصفحة تنمو وردة بيضاء تعكس ضوء الأمل في ظل العتمة، ضوء وإن كان خافتا فهو كفيل أن ينير الدرب لتجاوز الأشواك والعقبات التي قد تعرقل السير في الطريق.

تبدأ المجموعة بحكاية جوزيف الذي قذفت به سبل الحياة إلى ميدان الحرب لمجابهة العدو، فالواجب يقتضي أن يكون في جبهة القتال من أجل الدفاع عن الوطن، والحقيقة المدفونة بين الضلوع أن الانخراط في الجندية لم يكن بدافع الواجب ولا السعي نحو البطولة، وإنما بدافع البحث عن عوائد مادية تكفيه لتلبية حاجيات أسرته ومعانقة حلمة في الزواج ممن كان حبها أمله وسلواه، لكن  الأخ الذي يقال عنه السند والعضد قدم له جزاء أسوء من جزاء سنمار،  فشيطان الغيرة المتقدة في القلب جعله يسلب منه حبيبته، ويوهم الأم أن ابنها راح شهيد الوطن، بعدما كان يمزق  رسائل الوصال التي كان يبعث بها البطل للاطمئنان على الأسرة، حسرة الأم على غياب ابنها أودعتها القبر، وحسرة الأخ الذي تكبد جسده ضربات العدو وقاومها ببسالة لكنه لم يقوَ على  صد ضربة الغدر من أخيه، فضربة الأخ أقوى وجعا من ضربة العدو، والخسارة الكبرى هي حينما يموت من نعزهم بأفعالهم في أعيننا، لتأتي الخلاصة على قول الكاتب “ليس كل من تحبهم… يحبونك”.

على “الهامش” هي ثاني قصة ضمن المجموعة والتي حاول الكاتب من خلالها أن يعبر عن واقعه اليومي في تفاعلاته وتداولاته مع زبنائه المعتادين للفندق مكان اشتغاله، فلكل منهم حكاية وقصة قد تبقى محفورة وخالدة في ذاكرته أو قد تنزوي إلى ركح النسيان، وذلك بحسب قوة العلاقة أو بحسب قوة المواقف، ورغم انصهار البطل/الكاتب التام في الحياة العملية الروتينية إلا أن هذا الانصهار لم ينسِه أن بداخله أحلاما لم تمت، وإنما يجب أن يدعها ترى النور هدية ووفاء لمن يحبهم ويحبونه، قبل أن يجعله الموت مجرد قصة يتداولها الآخرون، فإما أن تكون أو لا تكون لا مجال للهامش مع الأحلام النابضة في القلب.

أما القصة الثالثة والتي تحمل عنوان “الكهف” فقد اختار الكاتب عبارة معبرة يمكن اعتبارها ملخص القصة مفادها “قد يبحث الإنسان بين بقايا الزمن… عن أي أمل يحيي به ذكرى من أحبهم يوما”، هذه القصة قدمها الكاتب بروح فلسفية عميقة انطلاقا من العنوان حتى اختيار أسماء الشخوص، مرورا بالتيمة الأبرز الممثلة في البحث عن الوجود في قلب من نحب، فالكهف الذي يمكن أن يشير إلى رمزية متاهة الحياة وهي تجرنا يمنة ويسرة نحو إثبات الذات وقوتها في سعيها إلى السيطرة على تشابك خيوطها وفك عقدها، وفي غفلة الكبرياء والأنا الصاعدة في العلياء، تتساقط منا قلوب الأحبة واحدة تلو الأخرى، لتشق حياتها على شقائنا وصمت أنيننا،  ليكون العزاء في ذكريات من بقايا الزمان.

تحمل القصة الرابعة من المجموعة حكاية “سجين”، هو عنوان التضحية في سبيل حب نبذه وحب منحه الحياة، فكانت النجوى في صلوات جوف الليل لمن زرع الحب في القلب فمنه السلوى والنجاة، وإن ضاق القلب بجدران السجن، اتسع بالحب وصبره في سبيل رجل هو أول بطل في حياة أبنائه، فكيفما كانت عيوبه كبيرة وأخطاؤه متكررة ففي عيون أبنائه هو الأب بكل ما تحمله الكلمة من روابط أزلية يوثقها الحب برباط متين.

القصة الخامسة والمعنونة ب “السراب”  عكست الوجه الحقيقي لتيمتي الحظ والموت، الخيال والحقيقية، وأن الحصاد يكون بقدر الكد والجد، وإن كان هناك حظ فهو لا يأتي إلا بغتة ولمرة يتيمة إما أن تغتنمه وتحتضنه أو يصير دخانا سرابا مر كأن لم يكن، وما لم يكن لك من البداية فلن يكون لك في النهاية إلا في أحلام ضوء الشمس.

القصة ما قبل الأخيرة ضمن هذه المجموعة والمعنونة ب”البيت المهجور” كناية على ذلك البيت الذي يمكن أن ندفن فيه خطايانا الكبرى دون أن نداوي جروحها وآلامها، ندفنها حتى لا تخدش تلك الصورة المثالية التي بُصمت عنا في عيون الآخرين، لكن مهما طوى الزمان على سرنا في بيت مهجور بدون عنوان أو في بئر عميق نعتقد أنه محكم الإغلاق إلا أنه ما يلبث مع الزمن أن ينكشف، فصوت الحق يعلى ولا يعلى عليه إذ يخترق حتى الآذان الصماء.

القصة الأخيرة جاءت بعنوان “عابر سبيل” والتي تعكس مدى قيمة الاعتراف بالخطأ في وقته وحينه وهي منتهى الجرأة والشجاعة، وإن أتت في غير وقتها يكون الأوان قد فات، فلا قيمة لطلب الصفح مع التنهدات الأخيرة للنفس وهي تصارع البقاء من أجل الظفر بآخر نظرة من حبيب حطم الفؤاد بغدره، والخيانة بجرمه، وطولُ انتظار لحظة طلب الصفح والسماح لعلها تشفي ما بالقلب يفقد قوة الحنين، فقيمة الوقت هنا عامل حاسم، إما أن تضمن مقعدك في منصة البقاء أو تكون مجرد عابر سبيل، كأنك لم تمر من هنا، وشفاء الجروح كفيل بها الزمن.

المنفلوطي راهن من خلال مجموعته هاته بما تحمله من رمزية وأبعاد مضمرة بين السطور على ألا يكون في دائرة كتاب الأدب المغربي على الهامش أو عابر سبيل، وإنما هو كيان قادر على الخلق والإبداع وطرح قضايا إنسانية واجتماعية بلغات متفردة وبأساليب سردية متنوعة كلاسيكية، فلسفية، تراجيدية، درامية …. ينهل من الأساطير اللاتينية مثلما ينهل من الأساطير المغربية، يعبر عن الواقع مثلما قد يطوف بك في الخيال، وهذا يدل على غزير اطلاعه وغوصه في مدارس أدبية  مختلفة، ليخلق لنفسه مساره الخاص يجعله متميزا، يبصمه بسمت بارز دال على أن اسم المنفلوطي المغربي حقيقة، لا سراب.

اظهر المزيد

عزيزة حلاق

مديرة مجلة بسمة نسائية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

تم اكتشاف Adblock المرجو وضع مجلة بسمة في القائمة البيضاء نحن نعول على ايرادات الاعلانات لاستمرارية سير المجلة. شكرا