انضموا لنا سيسعدنا تواجدكم معنا

انضمام
أخبار بسمة

صبية الماء.. فرجة خطرة على تخوم سبتة


نزار الفراوي

سرب غيوم شاردة تجثم على الشط. تخلفت يخوت الصيف التي يطيب لها التبختر في الأعالي. لا قوارب صيد تجشمت مغامرة عبثية في يوم غضب بحري يصفع الجرف الصخري، بلا يأس.

من شرفة مطلة على معبر سبتة، يرجها الهدير في أعلى ربى الفنيدق، ينضغط مدى العين، تتعتم معالم الضفة المقابلة، وتتوغل عزلة الصخور المتناثرة التي اعتاد الوقوف عليها هواة الصيد بالقصبة في يوميات اختبار الصبر.

ينطلق فتية من الضفة الرملية للمتوسط، تحت مطر قليل. يسبحون ملتفين حول عجلة مطاطية. شغب طفولي يتحدى اضطراب الفصول، قلت، وأنا أنقل نظري صوب صندوق القمامة الذي يقيم عنده شاب بوهيمي، يتقمص خبلا صامتا. تجتمع عنده قطط ثلاث. يطعمها ثم يطعم نفسه. يعاملها لا برفق آدمي كاذب بل بوازع ألفة التشرد وأخوة الانتماء إلى قارة النسيان والصقيع. يتمشى قليلا في الأرجاء، ويعود ليستلقي مسندا رأسه إلى حجرة لين نتوءها بكيس يضم أسماله. عينه إلى السماء، خلفه البحر وخلف البحر فردوس يصنع طريقا سالكا نحو أحلام جيل معلق، تلتهم ضحاياها منذ توطنت فكرة العبور في السنة الصفر من انقشاع وعد النماء.

أتفقد الصبية مجددا. يتوغلون أكثر، بصمت ودأب. ليست نزهة شاطئ إذن، لعلها لعبة موت وجدتني شاهدا عليها، ملحمة “حريك”. أقل من كيلومتر على الحاجز الأمني المتأخر قبل الوصول إلى المعبر الفاصل على تخوم سبتة، تقدموا في عرض البحر ثم انعطفوا يسارا في خط سير يوازي الساحل. يتناوبون على التعب. يسحب العجلة اثنان، ويستريح ثالث.

بات “الحراكة” تحت رحمة موج تستفزه ريح شرقية عاتية، ترفعهم وتخفضهم في أرجوحةبحرية منذرة بأسوأ الحوادث. أتطلع إلى الضفة المبتغاة. هل يصلون؟ هل يموتون؟ لم يسبق أن شهدت موتا يتحقق بدراما اختفاء الجسد والجثمان في ذات اللحظة. عدم بمفعول مضاعف. ارتعشت حين تخيلتهم ينغمرون في جوف المتوسط وهم يرمونني بأعين شاخصة تعلق على كائن لا تعرفه إثم مآلها.

عن لي أن أوقف فيلما لا يعد بنهاية سعيدة. دخلت إلى الغرفة بعد أن أسدلت ستار الشرفة وأغلقت الباب الزجاجي، ثم عدت سريعا لأن المشهد الخارجي طاردني في الداخل بأصوات أكثر وحشة وقسوة. إنهم يواصلون التجديف، لكن أحدهم توقف عن الحركة، قبل أن ينفصل عن العجلة عائدا. لم أتبين إيماءات حوار لتدبير الأزمة، كأن السيناريو احتمال مبرمج في مرحلة التخطيط لرحلة اليأس والأمل. لعله عرف الرحلة، من يتعب يعود، إذ لا معنى لمحاولة إقناع بالمواصلة، ولا معنى للتضامن بوقف المشروع، وتكبد خسارة جماعية. “الحريك” إيمان متعنت، يتصاحب فيه الحس الجماعي وبراغماتية الخلاص الفردي.

بعيدا عن ساحل الفردوس، بعيدا عن شط العودة، يبدد الفتى زفراته الحارة، هذه المرة بغريزة البقاء. تباطأت حركات ذراعيه. يقلب رأسه على جانبيه ليجد سندا في الفراغ. ليس بعيدا جدا، لكن خطوة ناقصة عن موطئ قدم، تنهي حياته في الماء. الحركة ضمانته الوحيدة المتلاشية. يتوارد في ذهني ذلك المقطع الغيواني بصوت عمر السيد: “فين غادي؟..الذراع عيا…والمواجقليبة.”

الخطر داهم، ونشيد الموت يعلو في الأحشاء المضطرمة للبحر. يرفع “الحراك” يده مستغيثا، وشاهد الغرق بين، فهو يجدف ولا يتقدم. دوامة مزبدة تهيئ رقصة وداع. العابرون الذين تجمهروا في الشاطئ حول فرجة معتادة يدلونه على وجهة لمراوغة التيار. يضيع في هتافات متضاربة ثم يهتدي إلى حلف مع الموج. تأخذه واحدة وينتظر أخر لربح مسافات ثمينة في شريط النجاة. الإيقاع ليس كافيا لبلوغ الشط، لكن حظه مخبوء في صدفة جغرافية رحيمة: تلك الصخرة الناتئة العزلاء تختصر طريق سيزيف، بعد أن حرر الجزر رأسها ليتمسك بها الفتى. يرتاح قليلا ثم يستأنف خطوه الأخير إلى شوط حياة إضافي. يخرج منهكا، لاهثا، يرتجف، ويبتسم كي لا يبدو مهزوما.

لن يقويا على المواصلة، قال فتى بلهجة محلية مجربة. هذا جنون، قلت بحماسة نزقة. فعلناها، آ عمو، ووصلنا لولا تعاسة الموعد مع دورية الحرس، لكن ليس بهذه السذاجة. كان يعلق بزهو وهو يرفع يديه للمغامرين داعيا إياهما إلى الانعطاف نحو الشط بحنكة الخبير. في لحظة، بدا الأمر أشبه بهدنة بحرية. تركد العجلة في مدار مائي خف هياجه، ثم يبدأ “الحراكان” التجديف يسارا في اتجاه خط ساحلي نحيل أسفل الجرف. حين وصلا كان ثالثهما في الانتظار.

تعرف صبي على أحدهم: “على سلامتك آ الروبيو”. هل سيعيدون المحاولة؟ سألته.. ضحك من سؤالي وقال بنبرة كهل: عمو،  “الحراك” عنيد، رأسه حجر. وكلما تكررت المحاولات الفاشلة، تعاظمت عزيمته. البقاء هنا أيام هزيمة مرة بالنسبة لهم. فكرت في الشباب الهائمين في مفاصل الفنيدق، بحقائب ظهر خفيفة، ساهمة نظراتهم، لاهين عن حمى زوار الصيف. وجودهم لا يعكر شعورا مكينا بالأمان في نهار المدينة وليلها. لعل هاجس العبور يبدد نزوع العدوان والسلب.

نظرت إلى العجلة وتذكرت “ابا صطوف”، الرجل الذي يكري المظلات ومعدات الاصطياف ويعرض جولات بحرية عبر قوارب صغيرة. طلبت منه جولة بالكاياك ففاجأني مجيبا: ممنوع يا ولدي، لا يستخدمه غيري. ما السبب؟ أجاب معتذرا: شباب كثر “حركوا” باستخدام كاياك مستأجر، فتدخلت السلطات بحسم..

 قافلا إلى مكاني تحت الشمس، لاحقتني خلاصته الحازمة: “عبثا يحاولون ثنيهم. الهجرة فكرة، ولا سلاح يقتل الأفكار”.

ظلت كلمات “باصطوف” تراودني حتى صادفت المرأة التي تنظف مرحاض المقهى في الطابق العلوي: “البحر هائج يا ولدي هذا اليوم”. .

هي أحوال الطقس آ ميمتي، أجبت. أحنت صدرها وأسندت يديها إلى ركبتيها، كأنها ستفضي بسر، ثم حملقت في عيني بنظرة باردة وصوت نبوئي: “البحر يغضب بعد أن يلتهم الصغار”.. سرت قشعريرة في جسدي. لم تكترث حين ألقيت دراهم في صحنها الصغير. هرولت مبتعدا ثم طفقت أردد هامسا: ولكن الصبية نجوا…الصبية نجوا…

اظهر المزيد

عزيزة حلاق

مديرة مجلة بسمة نسائية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

تم اكتشاف Adblock المرجو وضع مجلة بسمة في القائمة البيضاء نحن نعول على ايرادات الاعلانات لاستمرارية سير المجلة. شكرا