إملشيل أو أرض العشاق

لطيفة باقا
لطالما ارتبط اسم هذه القرية الصغيرة المتاخمة على قمم جبال الأطلس الكبير، باسم موسمها: موسم الخطوبة بإملشيل.
ليست كل المواسم الشعبية بالمغرب مناسبة للم شمل العشاق وإحياء حفلات الزواج الجماعي وإن كانت لا تخرج عن إطار التبادل داخل البنية القبلية بشقيه المادي والمعنوي الذي يأتي على شكل طقوس احتفالية وفرجوية.
كان للمواسم دائما دور رئيسي في تثبيت الأعراف الاجتماعية وترسيخ النموذج الثقافي، الذي يستمد مشروعيته من الدين الإسلامي ومن الموروث الشعبي بشكل عام، بحيث كان المشترك بينها هو ذلك الطابع الطقوسي الذي تجسده الرقصات والأغاني بالإضافة إلى الولائم والمنافسات الفردية والجماعية، أما من حيث الزمن فقد ارتبطت المواسم غالبا بفصل الصيف فصل القطاف والحصاد والجني وجمع الغلة الفلاحية هذا من حيث الزمن، أما من حيث المكان فقد كان تنظيم المواسم الشعبية بالمغرب يختار دائما القرب من الأضرحة والزوايا بهدف إضفاء الطابع الروحي ومنح هذه المناسبات مشروعية دينية. وعلاوة على كل ما ذكرت تلعب المواسم دورا رئيسيا على المستوى الاقتصادي من حيث خلقه الرواج تجاري مهم الهدف منه إنعاش المناطق القروية.
موسم إملشيل هو كل هذه الأهداف مجتمعة مضاف إليها هدف كبير: الزواج.
مؤسسة الزواج هي النواة الأم داخل البنية القبلية، لذلك كان هناك اهتمام خاص بدعمها وتشجيعها بكل ما يتيحه الرأسمال الرمزي.
لم يكن الزواج فقط ارتباط بين رجل وامرأة اختارا أن يعيشا تحت سقف واحد من أجل استمرار النوع بل كان محركا لدينامية مجتمع برمته حيث لعب دورا أساسيا في تمتين اللحمة العائلية واستتباب الأمن الاجتماعي مع إحلال الصلح وفض الخصومات بين القبائل. الزواج في النظام القبلي رابطة جماعية مباركة من ناس القبيلة ومن الأولياء الصالحين.
موسم إملشيل يأتي في هذا السياق مستمدا مشروعيته مثل أغلب الممارسات الجماعية من أسطورة قديمة. أسطورة “إسلي” وحبيبته “تيسليت”التي تذكرنا في بعض تفاصيلها بقصة روميو وجولييت حيث تحكي عن شاب من أبناء قبيلة أيت ابراهيم كان مغرما بشابة من قبيلة أيت يعزة القبيلتين معا هما في الأصل فرعين من قبيلة واحدة هي قبيلة أيت حديدو لكنهما عرفا تاريخا من الجفاء والعداوة مما وقف في وجه هذا الحب وفي وجه ارتباط الحبيبين . وبخلاف روميو وجولييت لم يتجرع العاشقان السم لتكون النهاية التراجيدية بل ظلا يذرفان الدموع حتى امتلأ النهر وتفرع إلى نهرين هما نهر إيسلي الذي يعني بالأمازيغية العريس ونهر تيسليت ويعني العروسة. موسم الخطوبة إذن يأتي كتطهير رمزي من الذنب الذي ترتكبه القبيلة في حق العشاق.
تتم طقوس الخطوبة بإملشيل حسب العادة: يتقدم العرسان بملابسهم التقليدية التي تميز زي المنطقة ثم يقفون كل أمام الفتاة التي اختارها، في هذه الأثناء تكون الفتيات قد حضرن مرتديات لباسهن الأبيض مع حليهن الفضي وغطاء الرأس المطرز بالخرز مطأطئات رؤوسهن منشدة الحياء… كل هذا يحدث في حضرة العدل الذي سيبرم عقد الزواج بينهما.المشهد مثالي بالتأكيد لكنه على عكس ما يعتقده الكثيرون من أن العروس تتعرف على عريسها فقط خلال الموسم فإن واقع الحال الفعلي يقول أن الموسم ليس أكثر من ترسيم لعلاقة قائمة مسبقا بدأت وتطورت داخل الدواوير التي قدم منها الشباب والفتيات.
استقطاب موسم إملشيل لعدد مهم من السائحين والمهتمين بالإضافة إلى عشاق الفرجة لم ينجح في فك العزلة عن القرية الصغيرة التي لا تزال ترزح تحت واقع مزري يشكل القاسم المشترك بينها وبين أغلب المناطق المنسية في المجال القروي.الواقع هنا يتميز بقساوة المناخ ووعورة الجغرافيا حيث لم تستفد المنطقة من مد الشبكة الطرقية بالإضافة إلى ندرة مواردها الطبيعية. فخلف الصورة اللامعة لموسم الخطوبة التي كرسها الإعلام عن المنطقة، يوجد واقع قاس يعيشه السكان طيلة أيام السنة، حيث تنكمش إملشيل على نفسها في عزلتها الجغرافية والاقتصادية بين سندان قسوة المناخ والتضاريس الجبلية ومطرقة التهميش التنموي والسياسي. الخروج من إملشيل و الوصول إليها مغامرة صعبة حيث تعتبر نقطة سوداء على مستوى الطرق الجبلية الضيقة وغير المهيأة لفك العزلة عن القرية وإنعاش المنطقة اقتصاديا.
فإذا كان التهميش هنا مضاعفا فإنه في حالة نساء إملشيل الجميلات اللواتي يتصدرن البطاقات السياحية بابتسامة الواسعة… يظل تهميشا عنقوديا: الفقر والجهل والأمية والمرض بالإضافة إلى هيمنة الفكر الذكوري كلها أوضاع تجعلهن في أسفل السلم الاجتماعي بحيث يقف وضع الهشاشة المتعدد هذا في وجه ولوجهن للعصر من بوابة التعليم والصحة والوعي الحقوقي…
وضع الفرد بشكل عام ووضع النساء بشكل خاص يبدو وضعا مشلولا وفي حالة جمود يشبه صورة رائعة لا يفترض فيها أن تتحرك يوما وتخرج عن الإطار الصقيل الذي وضعت فيه. في إملشيل وتختصر الحياة في لحظة خطوبة تصاحبها الزغاريد النسائية والأهازيج والأساطير التي تحكي قصة ألم قديم وسط أضواء الكاميرات التي تلتقط صور ستتصدر الجرائد في اليوم الموالي وقد كتب أسفلها: إملشيل أو أرض العشاق.