
بقلم: عبد الرفيع حمضي
تشكل المهرجانات الفنية والثقافية ظاهرة عالمية تتجاوز كونها مجرد عروض موسيقية أو فعاليات ترفيهية، لتصبح رافعة تنموية وسياحية وثقافية ذات أبعاد استراتيجية. فكثير من الدول استثمرت في المهرجانات الكبرى باعتبارها أدوات لتعزيز الإشعاع الدولي، وتنشيط الاقتصاد المحلي، وإعادة تشكيل الصورة الذهنية للبلاد في الداخل والخارج.
من مهرجان ” كان السينمائي” في فرنسا، إلى “غلستونبري” في بريطانيا، مرورًا بـ”روك إن ريو” في البرازيل، شكلت هذه المهرجانات فضاءات لصناعة الهوية الثقافية، ولتحقيق التراكم الاقتصادي، وتحولت أحيانًا إلى رموز وطنية تحظى بإجماع شعبي ونخبوي، رغم الأصوات الناقدة أحيانًا لآليات تمويلها، أو لطبيعة رسالتها الفنية.
بهذه الخلفية، انطلق مهرجان موازين بالمغرب سنة 2001، ضمن لحظة سياسية واجتماعية اتسمت برغبة في تجديد صورة المغرب داخليًا وخارجيًا، وتحريك رتابة الحياة الفنية، وإحداث رجة كبرى في المشهد الفني المغربي.
وهكذا كان إطلاق موازين بحجمه الهائل، و جمهوره الضخم، وجودة تجهيزاته وبرامجه، جزءًا من رؤية شاملة تعتمد ما يسميه بعض الاقتصاديين “سياسة الأقطاب الكبرى” أو الأبطال ” champions، وهي فلسفة تنطلق من فكرة دعم وتشجيع الدولة لفاعلين كبار في قطاعات استراتيجية، ايمانًا بأنهم سيجرون خلفهم باقي النسيج الوطني نحو التحديث والتنافسية.
هذه الرؤية ليست اختراعًا مغربيًا خالصًا، بل امتداد لتجارب دولية، أبرزها نموذج كوريا الجنوبية التي صنعت شركات عملاقة بدعم الدولة، أو فرنسا التي بلورت منذ السبعينيات فكرة الأقطاب الصناعية الكبرى.
أما في المغرب، فقد بدا واضحًا منذ مطلع الألفية الثالثة أن هذه الرؤية أصبحت مرجعية عملية للعقل الإداري المغربي، وتجسدت في مشاريع كبرى، دمج ثلاثة بنوك في بنك تجاري واحد أصبح فاعلًا رئيسيًا في القطاع المالي، وتم الرهان على شركة الضحى التي تحولت إلى الفاعل الأول وطنيًا في مجال العقار قبل أن تنطلق نحو أسواق إفريقيا، ونفس الفلسفة وقفت خلف مشروع الميناء المتوسطي والقطار الفائق السرعة. ومحطة نور للطاقة البديلة والمجموعة الصحية “اكديطال” بل يمكن القول، دون تردد، إن الرغبة امتدّت لتأسيس حزب كبير holding يجمع الأحزاب الصغيرة والغاضبين والمنشقين والمطرودين من تنظيمات سياسية أخرى. كما يمكن الجزم ان حلم تنظيم كاس العالم لكرة القدم ولد في ذلك السياق وهو نفسه الذي يبث روحه ونَفسه اليوم في حلم احتضان بلادنا الألعاب الأولمبية فضمن هذا المنطق، جاء مهرجان موازين ليكون قطبًا ثقافيًا وفنيًا يعيد رسم صورة العاصمة، ويمنحها وجهًا دوليًا يضاهي المهرجانات الكبرى في العالم.
ومع ذلك لا يمكن تخيّل حجم الهجوم الذي تعرّض له مهرجان موازين منذ اللحظة الأولى، والذي قاده تيار الإسلام السياسي بكل ألوانه الدعوي منه والسياسي والجهادي والتكفيري، حيث اعتبروه تهديدًا للأخلاق والدين والأسرة والقيم الإسلامية ودعوة إلى الفاحشة. في حين وجد فيه خصومهم مناسبة جديدة للحديث عن المال العام والجماهير و”ميوعة” الضيوف، في حين اختار طرف آخر العصى من الوسط (اصحاب نعم و لكن ) فاتخذوا من الامتحانات والكلفة والأوليات ذريعة لمحاصرة المهرجان، ليصبح المثل الشعبي جاهزًا: “آش خصك العريان؟ قاليك موازين أسيدي ”
لكن المهرجان استمر، والتفّ حوله عشاقه الذي بلغوا 3 ملايين حضوريا وأكثر من 500 مليون عبر القنوات الفضائية وصار مساحة للفرح والتلاقي والحياة. وموعدا على اجندات التنشيط الفني العالمي، بعد ربع قرن، كتبت مواقع اليكترونية وخرج إعلاميون وغيرهم بتصريحات لا هم من الاسلاميين ولا من الراديكاليين ولا حتى من أنصار نظرية المؤامرة بل محسوبين على دوائر قريبة من مقصورة القرار بإدارة المهرجان (مؤسسة مغرب الثقافات) فوجهوا كلاما حادا لإدارة للمهرجان في دورته الحالية، ليس حول البرمجة أو الضيوف، او التوقيت بل أعمق من ذلك وبكلام عام وإشارات مبطنة.
يبدو انها ماهي لا صحوة ضمير متأخرة ولا نقد صادق لتطوير المهرجان؟ وبالتالي فمن حق الجمهور ان يعرف ماذا يحصل داخل المقصورة ويجانبها وفي كواليسها؟ ولماذا أُطلقت التماسيح في هذه اللحظة بالذات مع أن هذه الأيام هي أيام (العواشر) عند المغاربة ومن المفروض ان تكون التماسيح والعفاريت مكبلة في السراديب.
كما من حق الجمهور أن يتساءل من يريد ان يعود بنا إلى سنوات سهرات سباق المدن التي كان يشرف عليها المرحوم ادريس البصري شخصيا حيث كانت تنافسا بين الشيوخ والمقدمين اكثر منها بين الفنانين.
مع القناعة التامة أن مهرجان موازين ككل المشاريع الكبرى يحتاج إلى تقييم مستمر لا إلى حسابات ذاتية وصغيرة.
أقول قولي هذا، علمًا أنني لم أحضر أي سهرة من سهرات مهرجان موازين منذ دورته الاولى.