هل هي حرب الجنيرالات الخوارزمية!!؟

بقلم: عبده حقي
الذكاء الاصطناعي في قلب الصراع الإيراني الإسرائيلي: حين تتحول الخوارزميات إلى سلاح استراتيجي.
في أتون الحرب الباردة المتجددة بين إسرائيل وإيران، لم تعد المعارك تقتصر على السماء والصواريخ، ولا حتى على الجبهات التقليدية، بل انتقلت إلى عوالم أكثر تعقيدًا وتخفيًا: عوالم الخوارزميات، والبيانات الضخمة، والقرارات المؤتمتة. لقد دخل الذكاء الاصطناعي رسميًا إلى ساحات الصراع الجيوسياسي، وتحول من مجرد أداة تقنية إلى لاعب محوري يعيد رسم قواعد الاشتباك.
تكشف تقارير حديثة أن أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، وعلى رأسها “الموساد”، اعتمدت على تقنيات الذكاء الاصطناعي لتحليل كم هائل من البيانات الاستخباراتية بغرض تحديد أهداف نوعية داخل إيران. هذه العملية، التي سُمّيت بعملية “الأسد الصاعد”، استبقت الضربات الجوية الإسرائيلية عبر تنفيذ طلعات تجسس بالطائرات المسيّرة، المجهزة بخوارزميات رصد وتحليل، لتحديد مواقع حساسة داخل الأراضي الإيرانية بدقة متناهية.
الذكاء الاصطناعي هنا لم يُستخدم فقط في المراقبة، بل لعب دورًا في اقتراح أولويات الضرب—من خلال تصنيف الأهداف وفقًا لدرجة تهديدها وموقعها في شبكة البنية التحتية العسكرية الإيرانية. إنها لحظة مفصلية تُظهر أن “القرار العسكري” لم يعد حكرًا على البشر وحدهم.
من خلال تقنيات جرى اختبارها في معارك سابقة في غزة، مثل نظامي “Lavender” و”Gospel”، تمكنت إسرائيل من نشر منظومات قائمة على الذكاء الاصطناعي لتحديد مواقع الشخصيات المستهدفة ومخازن الأسلحة بسرعة كبيرة. تقوم هذه الأنظمة بتحليل أنماط السلوك والاتصالات والزيارات، لتستنتج هوية الأفراد وموقعهم المحتمل في منظومة صنع القرار الإيراني أو في الحرس الثوري.
لكن هذا التوجه يفتح بابًا أخلاقيًا صعبًا: هل يمكن تحميل خوارزمية مسؤولية استهداف خاطئ؟ ومن يتحمل العواقب إذا ما بني القرار على “تحليل احتمالي”؟ ما يزال الجدل مفتوحًا، وسط صمت قانوني دولي مقلق.
إيران بدورها لا تقف مكتوفة اليدين. إذ تشير تقارير من مراكز مراقبة الهجمات السيبرانية إلى تصاعد الهجمات الإيرانية على بنوك ومؤسسات بنية تحتية في إسرائيل، مستخدمة أدوات هجومية تعتمد على الذكاء الاصطناعي لرصد الثغرات وتكرار الهجمات بشكل تكيفي. فالهجوم لم يعد مجرد كود برمجي، بل منظومة تتعلّم من الدفاعات لتتجاوزها.
في المقابل، استثمرت إسرائيل في تطوير جدران حماية إلكترونية تستند إلى خوارزميات “تعلم الآلة”، تراقب سلوك الشبكة وتكتشف التسللات قبل وقوعها، بل وتُطلق تحذيرات مسبقة أو ردود فعل تلقائية.
في زمن الصورة، تتحول الحرب إلى مسرح افتراضي. تشير مؤشرات رقمية إلى أن منصات التواصل تشهد طوفانًا من الفيديوهات المعدلة والمعلومات المفبركة، كثير منها يُنتج بخوارزميات الذكاء الاصطناعي، مثل توليد صور دمار أو مشاهد غير حقيقية توظف لتعزيز روايات سياسية معينة.
وهنا، الذكاء الاصطناعي يُستخدم لتضليل، لا فقط للتشخيص. فالحرب أصبحت أيضًا على الإدراك الجمعي، وعلى “من يمتلك الرواية الأقوى”. وهو بعد خطير يربك المتلقي العادي ويدفعه إلى الشك في كل ما يراه أو يسمعه.
ربما من أكثر الأمثلة إثارة للقلق في هذه الحرب النفسية الذكية، ما أفادت به بعض الإيرانيات المقيمات في أوروبا من تلقيهن مكالمات غريبة عند محاولتهن الاتصال بذويهن في إيران، إذ يُجيب صوت روبوتي آلي على الخط، في رسالة مبهمة يبدو أنها تُستخدم للتشويش على الاتصالات الخاصة، وبث الخوف أو عدم اليقين.
هذه الحوادث، إن صحت، تشير إلى انتقال الذكاء الاصطناعي من ساحات التحليل إلى ميادين التأثير النفسي المباشر، وهي سابقة في تاريخ الحروب الحديثة.
إن ما نشهده اليوم ليس مجرد اشتباك مسلح بين دولتين، بل هو تمرين عملي على ما يمكن أن تكون عليه حروب المستقبل: هجينة، لا مركزية، وأقرب إلى معادلات رياضية منها إلى المعارك الكلاسيكية. وفي هذه المعادلة، يشكل الذكاء الاصطناعي القوة المحرّكة والغامضة في آن واحد.
هل نعيش إذن عصر “الجنرالات الخوارزميين”؟ ربما ليس بعد، لكننا نقترب. وإن لم تتحرك القوانين الدولية لتنظيم استخدام الذكاء الاصطناعي في النزاعات المسلحة، فإن الحروب القادمة ستكون أكثر هدوءًا على السطح… لكنها أكثر دمارًا.