
حكايات تدمي القلب…
قصص تحمل وجعًا صامتًا وعميقًا، يختصر حكاية آلاف الطفلات اللواتي تاهت بهن الطرق بين بيت لا يحتضن ومدرسة لم تكتمل، وشارع لا يرحم، وإصلاحية لا تجيب عن سؤال الأمان.
حديث بسمة/ عزيزة حلاق
جلستُ على المقعد المجاور لها، طفلة تلوذ بالصمت في الطرف الآخر، لا يتعدى عمرها الثانية عشرة، لكنها تحمل في نظراتها ما يفوق أعمار النساء المجربات.
ترددتُ قبل أن أسألها:
ما الذي أتى بك إلى هنا؟ (كنت أقصد الإصلاحية).
ظلت صامتة، تنظر إلى اللاشيء. وبعد دقيقة طويلة، التفتت نحوي وقالت بنبرة هامسة وكأنها تعتذر:
هربت من منزل أسرتي… الصداع والمشاكل لا تنتهي. تركت المدرسة مبكرًا. ولجأت للشارع، اعتقدت أنه سيكون أرحم
سكتت قليلاً ثم تابعت، بحنق:
أسرتي لم تبلغ عني حين اختفيت. كنت مجرد حمولة زائدة. أحضرتني الشرطة إلى هنا في حملة على الأطفال المشردين.
نظرتُ إلى يدين شاخت مبكرا، من أثر الشارع والحياة، وقلت:
هل أنتِ مرتاحة هنا؟
هزّت رأسها نفيًا دون أن تنطق.
هل ترغبين في العودة إلى أسرتك؟
ابتسمت… لكنها لم تكن ابتسامة، بل تعبير موجوع ومر.
هل تودين العودة إلى الشارع؟
قالت: لا… بصوت خافت، ممزوج بيأس ثقيل.
وسكتنا معًا.
كنت أبحث عن كلمات، عن مخرج، عن أمل صغير أقدمه لها. لكنها لم تكن تحتاج كلمات، كانت تحتاج حياة جديدة.
نظرتُ إليها طويلاً وسألت نفسي:
أيّ حال يريح هذه الطفلة… وغيرها كثير؟ قد يكون اسمها لمياء، ندى، رانية، وأسماء أخرى التقينا بهن، في زيارة لمركز حماية الطفولة بالدار البيضاء. زيارة كانت كفيلة بأن تهزّ أعماقنا وتوقظ فينا كل المشاعر المدفونة. هناك، بعيداً عن الكاميرات والأضواء، التقينا بوجوه تحمل بين عيونها الطفولة، وفي أعماقها وجع يفوق أي دراما تلفزيونية.
رافقت وفداً من مهرجان السينما والمساواة، فوجدنا أنفسنا في حضرة فتيات علّمننا أن الواقع أحياناً أقسى من الخيال، وأن وراء كل واحدة حكاية تبحث عن أذن تُنصت وقلب يَحن.
كانت الزيارة إلى هذا المركز، كفيلة بأن تخلخل مشاعرنا، وتضعنا وجهاً لوجه مع قصص تتجاوز الدراما التلفزيونية وتتفوق عليها في قسوتها وعمقها. جلسنا أمام مجموعة من الفتيات اللاتي بدت عليهن ملامح من الطفولة المنكسرة وأحلام تائهة.
استمعت إلى قصصٍ مفعمة بالألم، حكايات لم تكن مجرد كلمات، بل أنين مكتوم لفتيات جئن من الهامش المظلم. من عائلات وأسر متفككة، من شوارع قاسية، من واقع أفرز التشرد والانحراف والإدمان. بينهن من لجأت إلى الصمت أو الخيال، تنسج قصصًا وهمية تُخفي خلفها الحقيقة المرة التي أوصلتها إلى هنا. وأخريات تجرأن على كشف ما عاشته أرواحهن الصغيرة من تجارب تفوق أعمارهن، وتفوق قدرتنا على الاحتمال.
كان اللقاء مؤثراً حدّ الوجع. وجهاً لوجه مع واقع نفضل أحياناً تجاهله، أو نُخدّر ضمائرنا بعبارات مثل: “ليس من شأننا”، أو “لست مسؤولا عنهم أو هؤلاء اختاروا مصيرهم”. لكنه ليس اختياراً، بل سقوطاً حرّاً داخل منظومة اجتماعية تحولت إلى ماكينة لا ترحم، تطحن الضعفاء وتلقي بهم في زوايا منسية، بعيداً عن الضوء، بعيداً عن الفرص.
طلبنا منهن أن يقدمن أنفسهن: يذكرن أسماءهن، أحلامهن، والمهنة التي يطمحن إلى ممارستها مستقبلًا.
ترددت بعضهن في الإجابة، بينما اندفعت أخريات بحماس للحديث عن طموحاتهن: طبيبات، شرطيات، عسكريات، أو لاعبات محترفات في كرة القدم…
لكن الحلم الغالب بينهن كان الشهرة، والرغبة في أن يصبحن مغنيات أو ممثلات.
قليلة هي الأسماء الفنية التي يعرفنها، لكنها كافية لتضيء أحلامهن. طلبن مني أن أدعو بعضًا من تلك الأسماء لزيارتهن: دنيا بوطازوت، رفيق بوبكر، رشيد الوالي… نجوم قريبة من وجدانهن، وأحيانًا تكون مرآتهن الوحيدة على العالم الخارجي.
… من يزرع في قلوبهن الأمل؟
خلف كل جدار من جدران مراكز الإصلاح والتأهيل، تقبع عشرات، وربما مئات الطفلات اللواتي لفظتهن البيوت، وأنهكتهن الشوارع، فوجدن أنفسهن في مكان لا هو بيت، ولا مدرسة، ولا حياة.
هؤلاء الفتيات لا يحتجن فقط إلى طعام وملبس، بل إلى نظرة اهتمام، وكلمة تعاطف، وإشارة إلى أن الحلم ممكن والحياة لا تزال بخير.
هنا تحديدًا، تبرز مسؤولية الفنانين والفنانات، وصُنّاع الدراما، والمؤثرين والمؤثرات على مواقع التواصل الاجتماعي.
هؤلاء الذين تتابعهم أعين الصغار قبل الكبار، وتتلقف كلمتهم قلوب متعطشة لأي دفء.
ندعوهم اليوم، لا لتصوير مشاهد تمثيلية، بل لزيارة حقيقية، إنسانية، لهذه المراكز.
زيارة قد تبدو صغيرة، لكنها قادرة على رسم ابتسامة منسية، أو زرع حلم جديد في قلب طفلة اقتنعت أن العالم قد نسيها.
ليس المطلوب منهم أن يكونوا منقذين، بل أن يكونوا انسانيين أولاً.
أن يستخدموا شهرتهم، لا لعرض يومياتهم والتباهي بقفاطينهم وسفرياتهم …بل لرفع الوعي بقصص هؤلاء المهمشات…
لما لا نرى مسلسلاً يحكي عن فتاة من الإصلاحية، بعيدًا عن الصور النمطية؟ وتقديم نماذج ناجحة، تحفز هؤلاء النزيلات على التمسك بالحلم، لنقدم لهن مثلا، قصة التلميذة التي احتضنها مركز حماية الطفولة عبد السلام بناني بالدار البيضاء، عاشت فيه وتابعت دراستها من هناك، وحصلت على معدل ممتاز لنيل شهادة البكالوريا برسم هذا الموسم الدراسي 2020 بلغ 17.09، وهو معدل يندرج ضمن فئة المتميزين وطنيا.
لما لا يتحول التفاعل الافتراضي إلى تضامن فعلي؟
هذه دعوة مفتوحة، من قاعة انتظار باردة، إلى قلوب دافئة.
كونوا الأمل حين يغيب الأهل، وكونوا النور حين يُطفأ كل شيء.
“لم يعد أمامنا سوى أن نُوجّه نداءً صادقًا إلى الفنانين والفنانات، صنّاع الدراما، والمؤثرين على مواقع التواصل الاجتماعي : تذكّروا دائمًا أنكم قدوة لفتيات كثيرات، وأن لكم مسؤولية أخلاقية ومجتمعية في ما تقدّمونه من محتوى. نحتاج منكم أعمالًا تزرع الوعي، وتُضيء دروب الأمل في عيون من أنهكتهن الحياة. ولِمَ لا تكون هناك مبادرات لزيارة هذه المراكز؟ فقد تكون زيارة واحدة كفيلة بزرع ابتسامة، أو إحياء حلم في قلب فتاة منسيّة، تعيش في هامش واقع لا يرحم.”
حين تصبح الطفولة بلا ملاذ
فالسؤال الذي طرحته أعلاه، أي حال يريح هذه الفتاة وغيرها كثير؟”، ليس سؤالاً بسيطًا، بل صفعة تضعنا أمام فشلنا الجماعي: الأسرة، المدرسة، الدولة، والمجتمع.
فهي لا تريد العودة إلى البيت الذي هربت منه.
ولا الشارع الذي لفظها.
ولا الإصلاحية التي تعتبرها سجنا، أكثر من أن تكون حضنًا للتأهيل.
فأين تذهب؟
الراحة لهذه الطفلة لا تكون في مكان مهما توفرت فيه شروط عيش نسبيا معقولة،
بل في شخص يسمع دون أن يُدين،
وفي حضن لا يطلب المقابل،
والأهم من كل ذلك، تحتاج لنظام اجتماعي لا يترك الأطفال ليكتشفوا قسوة العالم بمفردهم.