“شيء مني…شيء من السياسة”

بقلم: د. العالية ماءالعينين
عندما بدأت بتصفح كتاب الصديقة سميرة مغداد، تساءلت مع نفسي، ترى أي الجوانب في هذا الجزء/ الشيء، من سميرة يمكن أن يستفز رغبتي في المعرفة؟
ستة عناوين أو محاور رئيسية تقترحها علينا فهرسة الكتاب: شذرات من القلب- أشياء من طنجة- شيء من السياسة- للنساء فقط- تأملات – شيء من الحنين.
تعودت دائما في قراءاتي على تنوعها أن استمع لصوت النصوص وعبرها لأصحابها. أدخل بدون برامج قرائية مسبقة إلا ما هو جزء مني ولا أستطيع التحكم فيه (شيء مني انا أيضا) وأترك لتأثري وتفاعلي حرية قيادتي إلى ما تقترحه علي تلك النصوص.
تحركت عيوني و سبح تفكيري في اتجاهات متعددة وفي كل مرة كنت أتوقف عند:
” شيء من السياسة” نعم كل تلك العناوين والمحاور كان يجمعها شيء من السياسة أو هكذا بدا لي. وكأن تفكيري كان يقودني إلى مشاكسة سميرة مغداد، حين قالت في “سياسة الناس”: لست من المتعاطيات للسياسة. السياسة مستنقع تجنبته دائما وعززته النصائح العشر لحياة سليمة شرط صحتها الأساسي أن تكون خالية من السياسة؟
عادت لتكشف أن ابتعادها لم يطل. تقول:” لكن حديث السياسة في الفترة الأخيرة أصبح حديث الموائد العائلية والفضاءات العامة مع أحداث تونس ومصر وكغيري من المواطنين والمواطنات تابعت الأحداث التي تسجل نقطة تحول…”
هكذا ترى سميرة علاقتها بالسياسة، أما أنا وبِنِيَّةٍ مبيتة أرى أنها كانت دائما تكتب في السياسة، في “شذرات القلب” و”أشياء من طنجة” و”للنساء فقط ” و”التأملات” وحتى “الحنين”…
فكما يقول جورج اوريل، ليست هناك كتابة بعيدة عن السياسة خصوصا في زمن كزمننا هذا، حيث المخاوف والكراهية وحتى المحبة كلها ذات طبيعة سياسية تحاصرنا في كل آن وحين وتشغل تفكيرنا.
ما يهمني شخصيا هو قراءة الواقع /السياسة، من منظور صحفية ذات تاريخ وتجربة كبيرة ومتميزة. كتابتها شهادة على عصرها وعلى مرحلة مهمة من تاريخنا المعاصر. فالصحافة كما يقول البير كامو: ” تكتب التاريخ في صيغة الحاضر”. ربما الصحفي ليس معنيا بأليات اشتغال المؤرخ ولكنه يقدم شهادته الحية على احداث عايشها وأحداث ربما لن يذكرها التاريخ الرسمي، وشخصيات سيسقطها لسبب أو آخر. الصحفي يرصد النبض اليومي خصوصا إذا كان بعيدا عن التخصص الرسمي في السياسة وهذا تماما ما تمثله تجربة سميرة مغداد.
سأركز في قراءتي على “الشخصيات” التي أخذت مساحة مهمة في المقالات المختارة. ولا أقصد أن أسماء بعينها أخذت حيزا كبيرا، بل حضور كثير من الشخصيات في هذا العمل.
مبدئيا نلقي نظرة على الأسماء قبل قراءتها وتحليل صور حضورها وما تحمله من دلالات.
علي انوزلا- كاتس ستيفنس (يوسف اسلام) – محمد شكري- معتقلي قضية بلعيرج- محمد لشكر- مراد البوريقي- إسماعيل ياسين- عبد الاله بنكيران- بسيمة حقاوي- ثريا جبران -رقية بولوحوش- الياس العماري – الحيطي- شرفات افيلال- سعد الدين العثماني …
تختلف الشخصيات باختلاف حكاياتها ومواقفها وخلفياتها الأيديولوجية والسياسية، ولكن يربط بينها أنها اثارت اهتمام سميرة في محطة أولى حين كتبت عنها، ومحطة ثانية حين اختارتها للنشر في هذا الكتاب.
تقول هاديا سعيد في تقديمها: “سميرة مغداد تهدينا في كتابها الأول ما اختارت أن تراه وتضعَنا في بوصلة تنبض بكل ما يسعدنا ويبكينا. ما يجرحنا ويداويينا. ما نهرب إليه ونلتصق به.”
إذن قد تكون الكتابة الصحفية في وهلتها الأولى متابعة وتفاعلا مباشرا. ولكن حين نعيد نشرها فنحن هنا نكتب بخلفية انتقائية وفيها نوع من التفكير وهذا يجعلها تحمل وعيا خاصا وموجها.
في محور شذرات من القلب، وتحت عنوان:” رسالة بين القضبان…إلى علي” تكتب سميرة إلى صديقها علي أنوزلا في محنته الثقيلة عندما استيقظ ذات يوم ووجد نفسه تحت وطأة تهم ثقيلة “مخيفة”.
تقول:” أخشى أن يكون تضامننا معك باسم الصداقة والمحبة عنوان تضامن مع شخص إرهابي لم نعرفه يوما. البعض يحذرنا من مغبة التضامن معك لأنك خائن للوطن…اتصالات…تقدم نصائح مفيدة للابتعاد عنك فأنت رجل خطير يهدد أمن الدولة. البعض الآخر ينصح بالتروي وأخذ المسافة إلى أن يقول القضاء كلمته “.
سميرة تستنطق “قلبها” وعقلها لتصدر حكما يكشف عن جرأة في التحليل ووعي سياسي عميق. ” لن نصدق أنك خائن للوطن أبدا، اختلفتَ عنا كثيرا في التعبير عن حب الوطن وقد تكون أصبتَه بنار الحب الحارقة، بينما قد نكون اخترنا نحن أن نحبَّه على نار هادئة خَشيةً على أنفسنا من الاحتراق كما يحدث معك اليوم…”
هذه العلاقة التي تنسجها سميرة مع شخوص مقالاتها، يحضر فيها وعيها وأحكامها الخاصة البعيدة عن الخلفيات الجاهزة والأحكام المسَبَّقة. وهذا واضح خصوصا مع الشخصيات السياسية التي تعيش تحت الضوء ويصعب أحيانا عزلها عن ما يحيط بها. لكن سميرة تختار مداخل أخرى تبدو بسيطة ولكنها تضيء جزءا من الواقع السياسي والإعلامي، وتبين حروبه الخفية.
في ” نصائح أنيقة جدا” تقول:” لم يسبِق أن أثير نقاش غير سياسي على سياسي مغربي مثلما حصل مع عبد الإله بن كيران رئيس الحكومة الجديد، لم تسلم حتى ربطة عنقه من هذا الجدل، لم لا يضعها؟ ومتى وأين وكيف؟ لتشكل خبرا أساسيا أحيانا لدى بعض المنابر الإعلامية وتحولت كرافطة السيد الوزير إلى نجمة أساسية…فيتحدث السيد الوزير كيف سيضعها ومن سيربطها له وأين…”
كلنا نتذكر الرجة السياسية التي أحدثها صعود حزب العدالة والتنمية، وطبيعة النقاش الذي اثارته بين مهاجم وموالي. ولكن سميرة اختارت مدخلا آخر. ففي تعليقها على موضوع الهندام والشكل، تقول بروح ساخرة وعميقة: ” الاتقياء والزهاد كما عرفناهم وحدثتنا عنهم الكتب، أناس بسطاء في الملبس والمأكل والمشرب. همهم الشاغل خدمة الناس وإرضاء الله. ولعل بنكيران يفصح في هندامه عن هذا الزهد”. وفي تحليلها ومناقشتها لهذه الصورة تقول: بعين فاحصة وناقدة وطريفة، ” أمام بنكيران مسؤوليات بحجم الجبال التي سكنها زهاد كثر هربا إلى الله وحده، لكنه هو اختار العراك السياسي وتدبير شؤون الأمة لذا فالسياسة ستقتضي منه أن يساير ويهادن ويخاطب الناس بما يعلمون ويدخل في لعبة الحياة الجديدة ككل ومنها الاناقة…”
“حضن الوزيرة” عنوان مقالة تشبه بطلتها. ولا أظن أنه مرت في حياتنا السياسية شخصية مثل الراحلة ثريا جبران سيدة المسرح المغربي ووزيرة الثقافة في حكومة عباس الفاسي 2007. في هذه المقالة تدافع سميرة عن ثريا الإنسانة والفنانة، تقول:” فرفقا بهذه المرأة التي منحها الله قوة القلب الواسع وكفاها عطاؤها المسرحي والفني شاهد على قدراتها الربانية وعلى شموخها” وتقول في نفس المقالة:” والمرأة لم تستغل ولم تتبجح. فتحت حضنها لكل الناس ورددت مرارا “الله يقدرني” هي تعرف حجم نفسها وتريد أن تكون في خدمة وطنها بطريقتها وبكل ما تملك…لها حقها من الضعف أيضا وهمومها الخاصة…”
صحيح أن كلام سميرة عن ثريا جبران تطبعه أحاسيس حميمة ويعبر عن تعاطف كبير إلا أنه أيضا يكشف عن معرفة عميقة بالمفارقة في تجربة ثريا السياسية كوزيرة للثقافة. الذين يعرفون تاريخها كفنانة، والتحول الذي حدث في مسارها، من خلال فرقة “مسرح اليوم” وعملها الأول “حكايات بلا حدود”، التي اقتبسها زوجها المخرج عبد الواحد عوزري من نصوص محمد الماغوط. وتوالت اعمالها، “أربع ساعات في شاتيلا” سنة 2001، وهو نص للكاتب الفرنسي جان جنيه بترجمة الناقد محمد برادة. وواصلت اشتغالها على نصوص الأدب العربي والعالمي من خلال مسرحية ديوان الشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي “الشمس تحتضر”… هذا التحول سيبرز صوت ثريا القوي والثائر والمعارض …
ولكن إلى أي مدى استطاعت ثريا ترجمة قوتها كفنانة إلى قوتها كسياسية؟ لم تغير ثريا عاداتها مع أصدقائها ومحبيها ووسطها الفني، وبذلت مجهودات كبيرة ولكنها دفعت ثمنها من صحتها وربما من عمرها، وكانت النتيجة، ان طلبت الإعفاء من مهامها الوزارية.
هل تكفي النوايا الحسنة لخوض غمار السياسة؟
هل قوة الصوت في الكتابة والفنون، أو في أي مجال آخر تنتج عنه بالضرورة قوة سياسية؟
تنوعت الوجوه السياسية النسائية في كتاب ” شيء… مني” ولكل شخصية قراءة خاصة. هناك علاقة يطبعها التحرر من أية أحكام مسَبَّقة إلا ما كان منها إيجابيا.
تقول عن بسيمة حقاوي الوزيرة الوحيدة في حكومة بن كيران:
” تابعت نقاشا حامي الوطيس…لأن إقصاء النساء في مغرب المناصفة والمساواة أمر مَعيب…ويضع جهود الوزيرة المناضلة السابقة نزهة الصقلي في مهب الريح…لكن توقفي هنا مع العهد الجديد، الذي تدشنه الوزيرة بسيمة حقاوي التي نتمنى لها…أن تكون امرأة بمائة رجل…وتفكر في كل النساء”. وتتأرجح سميرة مغداد بين الاستياء والرجاء.
والحقيقة أن اهتمام سميرة بالسيدة الوزيرة تجاوز ذلك إلى النصيحة الحميمة:” نفس ملاحظة الأناقة تنطبق على الوزيرة بسيمة حقاوي التي تخفي أنوثتها بصرامتها وإصرارها على لُبْسِ أي شيء أحيانا لَستر الجسد وحجبه. ننتظر منها أن لا تخذلنا في السياسة والأناقة معا….”
اهتمام سميرة برموز سياسية وطنية نسائية، وتفاعلها معها، ليس له خلفية أيديولوجية. فبالإضافة إلى تنوع الأطياف السياسية ( يمين – يسار – تكنوقراط) فإنها على مستوى التحليل والقراءة، تعطي مساحة للتأمل ومحاولة الفهم قبل الأحكام القطعية. فإن كان دفاعها عن ثريا جبران لا يخفي تعاطفها الشخصي معها إلا أنها في مواقف أخرى -تغيب فيها الحميمية- ولكن يحضر التفهم. في حادثة ساعات الحيطي كاتبة الدولة المكلفة بالبيئة، عن حزب الحركة الشعبية في حكومة بنكيران، تقول الكاتبة:” الوزيرة حين تقول بالعمل لمدة 22 ساعة، قد تقصد زمنا مخفيا لا يرى بالعين المجردة. زمن الجهد والتعب الذي لا ينتهي. الموظف محكوم بعمل محدد وقد يكون فعلا زمنا مرهِقا رغم محدودية الساعات. وقد يكون زمنا فارغا لأنه ببساطة “ماكاين مايدار”. ساعات الحيطي بالمفهوم الفلسفي زمن آخر يتجاوز الوقت المحدد للعمل.”
سميرة لا تدافع عن الوزيرة بل عن المبدأ، المحاسبة يجب أن تكون على العمل لا أن نتسقط الكلمات والتصريحات، لنوجه سهامنا لمسؤول. ” العمل قد يتبع الوزيرة في كل مكان وليس مرتبطا بمقر أو مكان”.
من الشخصيات الحاضرة وبقوة في ” شيء… مني”، الياس العماري، “ولد لبلاد”. أو سفير الحسيمة في الرباط كما سماه عمر اوشن حسب المقالة.
أول ما شدني في هذا “البورتريه” ذي الطبيعة الخاصة، هو الصراحة والوضوح الذي تتحدث بهما الكاتبة. لا نشعر أن هناك تفكيرا مسَبَّقا في ما يجب أن يقال أو يكتب. الأفكار تتسابق تتقاطع فيها الصداقة، الإعجاب، التساؤل، الخوف، القلق…العقل
تقول:” قد يصعب اليوم الحديث عن إلياس العماري كصديق فقد أصبح أشهر من نار على علم. ومن يتحدث عنه وكأنه يعرفه قد يكون مخطئا. أو سيتهم بالتودد إلى رجل نافذ اليوم”.
هكذا تعلنها واضحة ومع ذلك لا تخفي أبدا طبيعة هذه العلاقة والتي بنيت على المعرفة المباشرة (جريدة الشرق الأوسط) ولكن أيضا الانتماء الواحد تقول:” كنت سعيدة بمعرفة إلياس خاصة وأنه ابن بلدي “ميس نثمورت” وهو أيضا كان يناديني ” ايجيس نثمورت” أعترف أنني شخصيا أصاب ببعض العصبية القبلية أمام ناس الريف”.
بالمناسبة كلنا نعاني من عصبيات معينة وهذا طبيعي، الذي يخيفني شخصيا هو عدم الاعتراف، لأنه دليل على أن شيئا ما (يتجاوز الحد) يحدث في الخفاء أو الاعماق. لكن الوعي بالذات جزء من صحتها النفسية.
هذا الوعي، ينتج عنه الفصل بين ما هو خاص (صداقة – معرفة- نفس الانتماء) وما هو حياة سياسية بدهاليزها وكواليسها. فهي تصفه قائلة:” لا شيء في تقديري يصنع إلياس سوى ولاءه التام لأصدقائه سواء كانوا داخل السلطة أو خارجها. الياس انتزع ثقة الكبار ومحبتهم بشخصيته وحيويته وطاقته الإيجابية… وأجزِم أنه رجل لطيف المعشر وخدوم يستوعب كل الأمزجة الإنسانية” وفي مكان آخر تقول:” لكني خائفة عليه من شيء ما”…
هذه الصور عن علاقة سميرة بإلياس العماري الإنسان، لم تنجح في إخراجها من زاويتها الحذرة أو لنقل رؤيتها للحياة السياسية. تقول:” وعودة إلى الياس وبنكيران. شخصيا أراهما يتشابهان…الياس يتردد اسمه الشخصي أكثر لأنه فعلا صنع نفسه بنفسه…وبنكيران له حظ الاسم العائلي الرنان. صراعهما صراع الحلبة السياسية البقاء فيها يتطلب التمرس الدائم وتجريب كل الأقنعة”.
صحيح انني ركزت على الشخصيات السياسية ولكن هناك شخصيات أخرى قد لا تبدو كذلك ولكنها في عمق الواقع السياسي في بلادنا وربما تكون لنا معها وقفة أخرى، (فاطمة بولحوش…).
ختاما كتاب سميرة مغداد يتجول في أعماق الحاضر والتاريخ والجغرافيا. قراءته تحتاج لزوايا متعددة. حتى عناوين مقالاتها تحتاج دراسات خاصة فهي تحقق على الأقل الوظيفة الإغرائية أو الإثارية، حسب وظائف العنوان عند جيرار جنيت. واهنئها على هذه الخطوة راجية لها مزيدا من الكتابة والحضور الإعلامي الوازن.