الإنسانية لا دين لها ..

بقلم: الشاعرة نهى الخطيب
بسمة نسائية/ أصواتهن
من أحبّ الهوايات إلى نفسي سياحة التّسكّع، رغم أنّ معناها الاجتماعي واللغوي في عُرفنا بعيدا عن الحقيقة العلمية، لكن في منظوري هي مرتبطة بالتّأمّل والحرية والتّفرّد ، بعيدا عن الذّوبان في جموع قطيع المجتمع ، تمكّنني من الاستمتاع بمباهج السّفر ، وتنمية الاستقلال النّفسي.
الحكاية ترجع لسنة 2019 أيّام العطلة الرّبيعية التي آثرت قضاءها ببرشلونة، المدينة السّاحرة بشواطئها وأسواقها وأطباقها وأجوائها الاحتفالية الدّائمة ومدينتها العتيقة التي يعود تاريخها إلى نحو ألفي عام مضت.
خرجت صباحا مباشرة بعد تناول وجبة الفطور من المنزل الواقع في حيّ ” إيشامبلا ” بوسط برشلونة قصد المشي والتّرويح عن النّفس في جوّ ربيعي بهيج ، كان قصر أو ” قلعة مونتجويك ” قبلتي المفضّلة لما يتميّز به من إطلالة مذهلة على المدينة والحدائق الخضراء المحيطة به والنّافورة السّحرية بعروضها الشّيّقة الموجودة على رأس جادّة ” أفينغودا ماريا كريستينا ” التي بنيت وكل المباني المحيطة بها خلال فترة معرض برشلونة لعام 1929 ؛ أخذت مكاني في أدراج القلعة ضمن عشرات الأشخاص من السياح والسكان المحليين مستمتعة بوصلات موسيقية من فرق تحج كلّ يوم لهذا المكان لتفيد وتستفيد.
نظرت إلى ساعتي فوجدت الوقت لازال باكرا للعودة إلى البيت، وأنا في عطلة ومن عاداتي أن أستغل أوقات سفري أبشع استغلال …
إستأنفت جولتي مجتازة ” بلاصا دي إسبانيا ” وأخذت جادّة ” لاس كورس ” إلى آخرها ، ثمّ شارع ” كونت دورجاي” لأجد نفسي بعد ساعة ونصف من السير في حيّ #الرّفال #Raval ، هذا الحيّ الذي طالما حذرني الأهل والأقارب من الذّهاب إليه بمفردي ، وبما أن كلّ ممنوع مرغوب عندي حتى يثبت شرّه ، كانت الفرصة مواتية للمغامرة.
كان الحيّ عبارة عن تجمّع كثيف للمهاجرين في وضعية قانونية ومنهم السريين ، الأكرية فيه رخيصة ، مع ارتفاع نسبة البطالة والفقر والإنحراف بكلّ أشكاله ؛ ومن أراد منكم معرفة تضاريس المكونات الإجتماعية في إقليم ” كتالونيا ” بدقّة عالية ، فعليه بقراءة رواية : ” الأمسيات الأخيرة مع تيريسيا ” للكاتب ” خوان مارسيه ” المترجمة إلى العربية ، فهي مراوحة مستمرّة بين الوسط الفقير في الأحياء العشوائية والمشاحنات الدّائمة فيها ، وبين وسط الأغنياء والقصور والمنتجعات والحياة الأرستقراطية ، أي خليط من السّرد والوصف الواقعي للأحداث والفكر السوسيولوجي .كنت أمشي في دروب الحي الصّاخبة بحذر شديد ، تارة أصادف مشاحنة بين شباب ” إكوادوريين ” ، وتارة سِبابا بلهجة مغربية بين مراهقين ، وتارة ثالثة أصادف مجموعة تتعاطى الممنوعات في ركن مريب ، بينما نظرات الهنود والغجر تثير رهبتي ، وترفع هرمون “الأدرينالين” في جسمي ، لكنّني أتظاهر بالتّماسك وأمشي منتصبة القامة في خطى ثابتة دون الإلتفات لأحد أو شيء ؛ فليس لديّ ما أخاف عليه ، فقد تركت حقيبتي وهاتفي وأوراقي الثّبوتية ونقودي في البيت ، ولا أحمل إلّا ” أورو ” في جيب بدلتي الرياضية .
شعرت بجوع شديد ، فلقد أحرقت كل السّعرات الحرارية من جراء المشي لساعات طويلة ، وفي أوج معمعة التّفكير في الخيار بين العودة أو متابعة مغامرة الاستكشاف، لمحت لافتة على باب معبد للسّيخ ، تدعو للطعام بالمجّان ، تقدّمت نحو الباب حيث ثلاثة أشخاص بلباسهم البنجابي ” البانا ” وعلى رأسهم عمائم تحمي شعرهم من التدلي ” التربان ” ؛ حيّيتهم بالإسبانية وسألتهم عن إمكانية استفادتي من الطعام مجّانا ، ردّوا التحية بأدب وابتسامات مريحة ، رحّبوا بي ودعاني أحدهم للدّخول ، رافقني إلى قاعة الطعام ، وفي البهو طلب منّي أخذ حجاب أصفر من صندوق لأضعه على رأسي شأني شأن كلّ النساء بالدّاخل ، كانت دهشتي جدّ كبيرة حين نزعت حذائي وجلت بنظري سريعا في القاعة الممتلئة عن آخرها بأناس من مختلف الجنسيات الذين توافدوا على المعبد لتناول الغذاء ، لم يكونوا فقط من الفقراء والمتشرّدين وعابري سبيل مثلي ، بل كان منهم السياح المقتدرين ، والطلبة الجامعيين ، وحتّى من نساء المجتمع الإسباني الرّاقي وذلك واضح من لباسهنّ وطريقة تناولهنّ للطعام .
كنّا نجلس على مصطبات بالأرض، في صفّين متقابلين ، مسندين ضهورنا إلى الحيطان ، لاغين أية تفرقة طبقية أو عرقية أو دينية وفي خدمتنا مجموعة من الشباب المتطوّعين إناثا وذكورا ، وكذلك نساء مع أطفالهن يأتين لتقديم المساعدة في وقتي الغذاء والعشاء أيضا ؛ كانت الوجبة الأولى عبارة عن أرز بجوز الهند ، بينما الوجبة الثانية كانت عدسا بالخضر والتوابل الهندوسية ، أما التحلية فكانت حلوى تشبه ما يسمى عندنا ب ” الشباكية ” لكنّها أكثر حلاوة ، ولونها يميل إلى الوردي .
كان هؤلاء الشباب لا يكفون عن توزيع الطعام كلّما فرغ صحن أحدهم، لكن مع التلميح بعدم ترك بقايا للطّعام في الصّحون، فهو هبة من الله .
أنهيت أكل ما في أطباقي وقدّمت التحية والشكر بالإشارة والكلمات على طريقتهم، وقمت على غرار بعض الوافدين على المعبد، فدلفت إلى قاعة أخرى مكسوة بالرخام الأبيض، تنبعث منها رائحة البخور والنّدود، يعكف بها أحد القديسين على ترتيل كتاب السيخ المقدّس، في صندوق هناك مخصص للإعانة التطوعية، وضعت ” الأورو ” الذي كنت أملك ، وقرأت سورة الإخلاص ثلاث مرّات ، ثم خرجت ، في الباب سألني أحد الشيوخ الثلاثة عمّا إذا كان الأكل قد أعجبني ، فأجبته بابتسامة رضا بارككم الله وبارك مسعاكم ، وانصرفت.
في طريق العودة أشرقت في نفسي شمس أخرى غير شمس ربيع برشلونة، شعرت بالأمان بعد خروجي من المعبد وانفرجت أسارير وجهي ، بل كنت أبتسم في وجه كلّ من يقابلني …
عقيدة لا ترمز إلى الله بصنم، ولا تجسّده في بشر ، تعتقد به حاضرا في كلّ مكان وتتّبع نهج المساواة بين كلّ البشر ، بل تفتح أبواب معابدها لتقديم وجبات مجانية للفقراء وذوي الحاجة ، طيلة السنة حرية بالاحترام والتّقدير .
الإنسان في حاجة إلى الاتصال بنفسه والنزول إلى أعماقه، إلى ينابيع الروح واللّاشعور الفردي والجمعي من حين لآخر ليدرك أنّه إنسان، ويتحقّق الإنسان السويّ بداخله، ويحصل على معنى السعادة.
السعادة في الاعتراف بالآخر، في الاعتراف بحقّه في الاختلاف، وفي حبّه واحترامه كما هو بدون شرط ولا قيد.
كلّ الأديان تدعو للمحبة والسّلام والتعايش والتّسامح، أمّا الكراهية والعنف والعنصرية فهي من صنيع الإنسان…