ما بعد التضامن مع المهداوي..لنتذكر العلوي ومشبال

رغم اقتراب الأسبوع على تداول الفيديو المسرَّب المنسوب إلى لجنة أخلاقيات مهنة الصحافة، ما تزال تداعيات ما بات يُعرف بالفضيحة حاضرة بقوة على منصات التواصل الاجتماعي، خاصة على فيسبوك، بين موجة تضامن واسعة مع الصحفي حميد المهدوي، وتدوينات ساخرة، ومحاولات لتحريف اتجاه النقاش أو التهوين من حجم الصدمة.
وسط كثرة التعليقات وتعدد القراءات، اخترت أن أنقل صوتًا هادئًا ورصينًا، عبّر أمس عن موقفه عبر تدوينة نشرها على صفحته. تدوينة أرى أنها تلخّص جوهر ما ينبغي استخلاصه من هذه الضجة الإعلامية والسياسية والقانونية، وما يجب التوقف عنده والبناء عليه، خدمةً لمهنة الصحافة ورفعة أدوارها في الدفاع عن الحقيقة، وترسيخ الثقة، وصونًا لقيم المواطنة والغيرة على كل ما يمس القضايا الجوهرية للمواطن المغربي
بقلم: أحمد جزولي*
تابعت باندهاش لحد الصدمة، رفقة ملايين المغاربة، وقائع أشغال لجنة الأخلاقيات التابعة للمجلس الوطني للصحافة (اللجنة المؤقته) التي بثها حميد المهداوي وتلقفتها وأعادت نشرها مئات وسائل الإعلام والمواقع الإلكترونية.
شهادتي مجروحة في حق هذا الرجل، لأننا اشتغلنا معا وكان ينوب عني في إدارة مؤسسة إعلامية لفترة من الزمن، لكن دعوني أقول إن وطنية الرجل فوق كل الشبهات، وصدقه مع نفسه ومع غيره ثابت ومؤكد، وهذا الصدق ينبع من قيمه المغربية والذاتية ومن مسار كفاحه في الحياة، قبل وخلال مهنة الصحافة، وما يشترك فيه مع كل مغربي حر، بل إنسان حر، هو الوقوف ضد الظلم أيا كان مرتكبه. وهذه شهادة أقدمها للتاريخ، ولكل من يهمه الأمر.
وهذه مناسبة أيضا لأقول إنني تعرفت خلال سنوات عملي في الصحافة وعضوية العديد من الهيئات النقابية والمهنية على كل الأسماء المذكورة في الشريط، وهذا ما ضاعف من حدة صدمتي، ولا أعتقد أن أحدا ما راض عما جرى.
اليوم، يجب إجراء انتخابات جديدة لأعضاء المجلس الوطني للصحافة، وإلغاء كل القرارات التي سبق لهذه اللجنة أن اتخذتها لأنه من الواضح أنها لم تتوفر فيها شروط الحياد. وهذه مناسبة أيضا لإعادة المشروع الجديد لقانون المجلس إلى النقاش العمومي (مشروع قانون رقم 026.25 المتعلق بإعادة تنظيم المجلس الوطني للصحافة)، إعمالا لمقتضيات الدستور ووجوب إعمال الديمقراطية التشاركية، أو على المكونات الحية في المجتمع أن تطور مبادرة لتعديله ولو قبل صدوره، أو مباشرة بعد الصدور، إذا ما أجازه المجلس الدستوري الذي قد ينظر فيه.
أما في موضوع القضاء، إذا كان لا يحق لأحد أن يطلب شيئا من القضاء، فألتمس من محركي الشكايات ضد المهدوي سحبها وطي الصفحة لصالح وطن. أما في القضاء، فيجب أن تكون كل المحاكمات عادلة، بما في ذلك محكمات المهدوي، ضمانا لهيبة القضاء وإنصافا للحق واحتراما للقانون. وبالمناسبة ألتمس إنهاء كل المتابعات ضد المهداوي، ليتفرغ لعمله، الذي يحتوي على خدمة عمومية أساسية أولها خدمة صادقة للقضايا الوطنية، وثانيها الاستماع إلى الناس وإيصال صوتهم.
وهذه مناسبة لأتحدث عن موضوعين: “المحاكمات المهنية”، ثم الحرمان من بطاقة الصحافة أو الحرمان من ممارسة المهنة.
في “المحاكمات” المهنية، لجان التأديب وغيرها، تسعى التشريعات – في العالم – لجعل المهنيين ينظرون في مخالفات زملائهم، والتي قد لا تُقبل (المخالفات) من المنظور المهني (وليس مثل القضاء الذي ينظر من المنظور القانوني)، وهذا يزيد من وجوب إعمال بعد النظر، والتدرج في القرارات، وإعطاء الفرص لـ “المتهم”، ليكون آخر الدواء الكي (كما يقول المثل الشعبي، أما الطب فله وجهة نظر أخرى). وهنا يحضر ممثل المهنيين بالضرورة، ويحق لصاحب الملف المعروض على اللجنة التأديبية أن يَحضر رفقة دفاعه، وأن يطعن، أو أن يلجأ هو (وليس لجنة التأديب) إلى القضاء طلبا للإنصاف إذا ما اعتبر قرارات لجنة التأديب جائرة في حقه. أي أن القضاء موضوع لمن هو أضعف، وليس لمن هو أقوى في المعادلة. والقصد من هذه المحاكمات التخفيف وليس التشديد، والبحث عن فرص الوساطة وحل النزاعات وليس تعميقها.
أما قضية الحرمان من بطاقة الصحافة، فأعتقد أن البعض لا يدرك معناها. إنها أثقل عقوبة في مجال الصحافة، لأنها تعادل الدعوة للحرمان من ممارسة المهنة. وليتخيل أي صحافي أنه تعرض لها، وآنذاك ليقيس شعوره.
أذَكّر المغربيات والمغاربة هنا بواقعة حرمان الصحافيين القيدومين الراحلين خالد مشبال ومصطفى العلوي من ممارسة المهنة (ثلاث سنوات)، وبعدهما جاء الحكم بحرمان علي المرابط من ممارسة المهنة لمدة عشر سنوات. وأذكر أنني كنت قد كتبت حينها عن خلفيات هذه العقوبة القاسية (عقوبة المنع من ممارسة المهنة) أنها لا تتلاءم مع مهنة الصحافة أصلا، وأن هذه العقوبة في تشريعات العالم تطبق على المهنيين الذين قد يستغلون مهنتهم لإيذاء الناس بشكل خطير أو القيام بجرم فظيع من قبيل “طبيب يقتل مرضاه بالقصد أو يغتصبهم”! وهذا المثال يقدم لأن الطبيب يمكن أن يخدر المريض ويفعل به ما يشاء دون أن يرى أو يسمع أحد. إذن هذا “الطبيب” لا يصلح لهذه المهنة كشخص مدى الحياة. ولهذا الطب من المهن التي لا يتم الشروع في ممارستها إلا بعد أداء القسم باعتباره التزاما شخصيا. أما الصحفي، فأقصى ما يمكن أن يلحقه بشخص هو الضرر المعنوي والاقتصادي أحيانا. إذن، ما هي الخطورة حتى يحرم صحافي من ممارسة المهنة؟ أو يحكم عليه بالسجن (عقوبة سالبة للحرية).
للتاريخ: بعد تلقي خالد مشبال لقرار المنع قال إنه بكى لذلك!!! وخالد مشبال كان قامة إعلامية كبيرة، كان مديرا لإذاعة طنجة، وبعدها أسس صحيفة “أخبار الشمال”. هذا المنع هز وطنا بأكمله، وبعد ذلك أصدر الملك محمد السادس عفوا عن الصحفيين وكانا قد حوكما بالسجن والمنع من ممارسة الصحافة، بعد أن اتهما بالتشهير بوزير الخارجية.
في الختام، وعلى هامش النقاش على موضوع مصدر الفيديو، دعوني أقول إن الصحافي الذي يفشي مصادر أخباره ليس صحافيا (إلا في حالة الأمن الإستراتيجي للدولة). وعلى ذكر مصادر الأخبار، يذكُر الراحل مصطفى العلوي (الأسبوع الصحفي)، الذي كنت معجبا بأسلوبه وذكائه لكن لم أكن متفقا مع كل آرائه، (وعبرت عن هذا للراحل خلال حياته) كتب أنه حدث في يوم من الأيام أن نشر خبرا عن اللقاء السري بين الملك وأعضاء الكتلة الوطنية (سبعينات القرن الماضي)، جعل الحسن الثاني يطلب منه اسم من سرب خبر اللقاء وكان هذا عبر مبعوث جاءه إلى بيته، فبعث مصطفى العلوي، مع نفس المبعوث ردا إلى الملك في ورقة كتب فيها “يا سيدي، هل تذكر يوم تقابلنا في دار الباهية في مراكش وقلت لي إن الصحفي المحترم هو الذي لا يكشف مصادره؟“.
*أحمد جزولي اشتغل في الصحافة، وهو اليوم باحث رئيس فريق خبراء في عدة مشاريع دولية، وهو خبير دولي في مجال الحكامة الديمقراطية، والشباب، والتنمية البرلمانية. صدرت له أبحاث ودراسات في المجالات متنوعة.


