انضموا لنا سيسعدنا تواجدكم معنا

انضمام
حديث بسمة

سياسة الإلهاء.. شكون كيحرك الخنشة؟

حين نصير فئراناً في خنشة السياسة

يُحكى أن رجلاً كان يحمل خنشة مليئة بالفئران. وكلما هدأت وحاولت الاستقرار، مدّ يده وحركها بعنف حتى تعود للفوضى والصخب والضجيج. وحين سأله أحدهم عن السبب، قال:

لو تركتها تستكين لفكرت في ثقب الخنشة والهروب، لذلك أبقيها دائماً مشغولة.

سياسة الإلهاء في زمن الأزمات

هذه الحكاية ليست مجرد طرفة شعبية، بل هي استعارة دقيقة لواقعنا اليوم. ففي زمن الأزمات، تتحول السياسة إلى فنّ لإنتاج الضجيج، بينما تبقى القضايا الكبرى مؤجلة أو مطموسة. تُغرقنا الشاشات في جدالات عقيمة، فضائح أخلاقية، تصريحات استفزازية، ومسرحيات إعلامية لا تنتهي، في حين تُترك الملفات المصيرية في الظل: إصلاح التعليم، أزمة الصحة، البطالة، العدالة الاجتماعية والمجالية، ومطالب أخرى كثيرة..

الواقع لا يحتاج إلى كثير جدل. الأرقام وحدها تكفي لتعرية الصورة:

معدل البطالة في المغرب عام 2025 يتجاوز 13,3%، ويقفز بين الشباب إلى أكثر من 30%، بل يصل إلى 40% في بعض الجهات وبين صفوف الخريجين.

معدل النمو الاقتصادي لم يتجاوز في السنوات الأخيرة 3%، وهو معدل ضعيف جداً أمام حاجيات مجتمع يزداد ضغطاً وفوارق تتسع.

قطاع الصحة يترنح: مستشفيات تفتقد لأبسط التجهيزات، خصاص مهول في الأطر الطبية، وهجرة متواصلة للكفاءات نحو الخارج.

التعليم، عصب أي تنمية، يعيش تناقضاً مريراً بين الاكتظاظ وضعف الجودة، ما يدفع الأسر، رغم ضيق ذات اليد، إلى التعليم الخصوصي خوفاً على مستقبل أبنائها.

ومع كل هذا، يظل المشهد السياسي و الإعلامي وفيّاً لأسلوب “الخنشة والفئران”: إشغال الناس بقضايا جانبية حتى لا يلتفتوا إلى الأسئلة الجوهرية. تُفتعل فضيحة هنا، ويُضخَّم تصريح هناك، ويُحرَّك الرأي العام كما تُحرَّك الفئران داخل الخنشة. وفي الخلفية، تُمرَّر قرارات مؤثرة بعيداً عن الأنظار: قوانين تمس الحقوق والحريات، مشاريع ذات أثر اقتصادي واجتماعي، إصلاحات “على المقاس” لا تجد النقاش العمومي الكافي ولا التغطية الإعلامية المسؤولة.

كم من مرة تابعنا الجدل حول “خبر غريب” أو “تسجيل مسرَّب”، بينما في الكواليس صُوّت على قوانين حاسمة في مجالات الإعلام والقضاء والاقتصاد؟ وكم من مرة انشغل الرأي العام بمباراة كرة أو زوبعة على مواقع التواصل، بينما تمرّ زيادات في الأسعار أو قرارات تمس حياة الناس اليومية؟

ما يحدث ليس وليد اليوم. إنها لعبة قديمة تتجدد بوسائل جديدة: اليد نفسها ما تزال تعبث داخل الخنشة، والفئران نفسها ما تزال تلهث وراء الضجيج. الجديد فقط أن أدوات الإلهاء صارت أكثر سرعة وانتشاراً: تغريدة، تدوينة، فيديو قصير، أو هاشتاغ، قادر أن يسحب انتباه الملايين ويغطي على نقاش كان يفترض أن يكون وطنياً وجاداً.

الخطر الحقيقي ليس في وجود اليد التي تعبث داخل الخنشة، بل في استسلام الفئران لمنطقها. حين نعتاد على الانشغال بالسطحي والهامشي، نصبح شركاء في لعبة الإلهاء، وندفن بأنفسنا القضايا الكبرى تحت ركام التفاهة.

لذلك، يبقى السؤال الذي يجب أن يطرحه كل مواطن على نفسه: هل سنظل نتحرك داخل الخنشة كلما أراد “صاحب اليد” ذلك؟ أم سنملك الشجاعة لثقبها والخروج نحو فضاء أرحب، حيث نعيد ترتيب أولوياتنا، ونفرض على السياسة أن تخدم الناس لا أن تلهيهم؟

إنها ليست دعوة لليأس، بل للتذكير بأن الضجيج لا يصنع مستقبلاً. ما يصنع المستقبل هو الوعي، النقد، والمطالبة المستمرة بأن تكون القوانين والسياسات في خدمة المجتمع، لا العكس.

 

 

اظهر المزيد

عزيزة حلاق

مديرة مجلة بسمة نسائية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

تم اكتشاف Adblock المرجو وضع مجلة بسمة في القائمة البيضاء نحن نعول على ايرادات الاعلانات لاستمرارية سير المجلة. شكرا