انضموا لنا سيسعدنا تواجدكم معنا

انضمام
رأيهم

هذا العالم مستشفى كبير

بقلم: ذ. سعيد الباز

تتأكّد حقيقة تحوّل العالم أكثر فأكثر إلى فرجة عارمة في السياسة والإعلام والرياضة والعوالم الافتراضية لوسائل التواصل الاجتماعي. ملايين من الهواتف الذكية في اتّصال دائم، سماعات مفتوحة في آذان جحافل المارّة وراكبي القطارات ووسائل المواصلات… الجميع يدبّ في ألاف المدن والشوارع الممتدّة على مدى البصر والمفتوحة على الأنفاق المؤدية إلى محطات المترو والعديد العديد من اللوحات والشاشات الإشهارية العملاقة تملأ الفضاء في الممرّات وعلى واجهات العمارات الضخمة و الهائلة، العالم فعلا صار قرية صغيرة ولا أحد من ساكنيه يمكن لك أن تعتبره قرويا.

ماذا لو كان شارلي شابلن ما زال حيّا يعيش بين ظهرانينا هل سيخرج لنا شريطا سينمائيا على غرار تحفته “الأزمنة الحديثة” التي يصوّر فيها مدى انسحاق الفرد المعاصر في مواجهة الآلة في المجتمعات الصناعية، لكن هذه المرّة تحت عنوان آخر أكثر دلالة “الأزمنة الافتراضية”. ماذا لو كان هربرت ماركوز الفيلسوف والسوسيولوجي صاحب الكتاب الشهير “الإنسان ذو البعد الواحد” مازال حاضرا بيننا، هل ستتأكّد لديه طروحاته الرّائدة على ما نعايشه راهنا عندما يعتبر الإنسان المعاصر واقعا تحت سطوة التكنولوجيا ورديفتها الآلة الجبّارة للإشهار، ولم يتبق منه سوى بعد واحد، هو البعد الاستهلاكي فقط. هذا الإنسان ذو البعد الواحد يضطر إلى الاستغناء عن الحرية بوهم الحرّية، والحقيقة بالخيال والواقع بالصورة، والروح بالجسد، حتّى الثقافة أصبحت بضاعة للتسويق والفنون والآداب انتقلت من دورها النقدي والتنويري ورفض الواقع  إلى دور الترفيه و التسلية كالموسيقى والسينما التجاريتين على سبيل المثال، واللغة الحاضنة للوعي هي الأخرى خلت من الأفكار و المفاهيم …  فماذا سيقول السيّد ماركوز عن هذه العبودية الجديدة التي لم يعد فيها للإنسان سوى حرّية الاختيار بين العديد من المنتجات الاستهلاكية والخدمات التي يعرضها عليه الإشهار أناء الليل و النهار؟ في مجتمعاتنا تتضاعف هذه المظاهر بفعل التخلّف الذي تزداد حدّته لما تمنحه تكنولوجيا الإعلام من الفرص السانحة لفرض سطوته على عقول الناس واستعدادهم القبلي لتفريخ الأوهام و القبول بالتناقضات الصارخة. العشرات من القنوات الفضائية المخصصة للأغاني و الكليبات الخالية من الذوق تستعرض أمام المشاهد السيارات الفارهة  والحسناوات من روسيا و بلاد البلطيق، مغنيات يمتلكن كلّ شيء عدا الصوت الجميل، و حتّى المغنين بقصّات شعر غريبة مفتولي العضلات يبدو دون شكّ أنّهم قد جانبوا الصواب في اختيار المهنة المناسبة. تنضاف إلى سابقتها عشرات من القنوات الفضائية الدينية التي لا تترك صاحب لحية كثة ومنفّرة و عينين يتطاير منهما الشرر إلّا و دعته إلى برامجها ليملأها بالزّعيق ضدّ كلّ ما يمتّ إلى الحياة من جمال و سموّ روحي.

أخيرا، تأتي القنوات الرياضية المتخصّصة في كرّة القدم دون غيرها و التي ملأت المقاهي وشغلت النّاس إلى حدّ يبدو أمبرطو إيكو الروائي الإيطالي على حقّ في قوله بأنّ كرة القدم في عصرنا قد صارت أفيون الشعوب، فالعشرات من المقابلات تبث على مدار الساعة، وبطولات و كؤوس من هذا البلد أو ذاك تدور رحاها في الشاشات أمام مشدوهين يحرقون وقتهم وأعصابهم في مجادلات غبية ورهانات قد لا تخفي بؤسهم الظاهر على وجوههم، يحفظون عن ظهر قلب أسماء لاعبيهم وألقابهم وتواريخ أنديتهم المفضلة في حين قد لا يعرفون بالمطلق ما يجري في بلدانهم من أحداث فبالأحرى ما يحدث في العالم. هذه المئات من القنوات المتنوعة في كلّ هذه المجالات في بلدان لا تملك ولو قناة تعليمية أو ثقافية ذات مستوى في مجتمعات تنخرها الأمّية و الجهل… أليس بسيرنا الحثيث نحو المزيد من تفريغ الكائن من أيّ بعد نتّجه مباشرة إلى الكارثة حيث يصبح عالمنا كما قال شارل بودلير: “هذا العالم مستشفى كبير، كلّ مريض يرغب في تغيير سريره”.

 

اظهر المزيد

عزيزة حلاق

مديرة مجلة بسمة نسائية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

تم اكتشاف Adblock المرجو وضع مجلة بسمة في القائمة البيضاء نحن نعول على ايرادات الاعلانات لاستمرارية سير المجلة. شكرا