انضموا لنا سيسعدنا تواجدكم معنا

انضمام
حديث بسمة

زياد الرحباني: أنا مش كافر

عبقري السخرية ووجع الإنسان

حديث بسمة: عزيزة حلاق

قد نكتشف العباقرة متأخرين، وربما لا نفهمهم إلا بعد أن يغادروا، بصمتهم الثقيلة وظلالهم التي لا تزول.

زياد الرحباني واحد من هؤلاء. ليس مجرد ملحن أو كاتب مسرحي أو ممثل أو عازف بيانو؛ بل حالة استثنائية، تركيبة إنسانية نادرة تمزج الذكاء الحاد بمرارة التجربة، والعبث بالسخرية، والصدق بالزهد، والانتماء بالخذلان.

بعد رحيله، بدا كأن العالم يعيد اكتشافه، من خلال كلمات نعيٍ صادقة، ومن خلال العودة إلى أرشيف لقاءاته وموسيقاه ومسرحياته. هناك، حيث يظهر زياد الحقيقي: ممتع، عميق، ساخر، وانساني جدًا.

أن تكون ابن فيروز وعاصي

وُلد زياد في بيت أسطوري: أمه فيروز، الصوت الذي يسكن ذاكرة العرب، وأبوه عاصي الرحباني، أحد أعمدة النهضة الموسيقية الحديثة.

لكن خلف هذه الهالة، كانت طفولته تعاني من شروخ عائلية عميقة، أثّرت في تكوينه النفسي والفني.

في أحد حواراته، قال: “أمي فيروز مثل الشعب اللبناني… طيبة وصبورة، لكنها لا تتكلم كثيرًا.”

عبارة تلخّص علاقة مركّبة، مشحونة بالحب، والصمت، والاحترام، وربما الحزن أيضًا.

العبث بالمسرح… والسخرية من الخراب

منذ مراهقته، شقّ زياد لنفسه طريقًا لا يشبه أحدًا. كتب أولى مسرحياته في عمر السابعة عشرة، وأصرّ على أن يكون صوته خاصًا، لا امتدادًا لمدرسة الرحابنة.

في أعماله مثل “فيلم أميركي طويل” و*”بالنسبة لبكرا شو؟”*، نرى الفيلسوف الساخر، الناقد الغاضب، الذي يرى في الخيبة مادةً للسخرية، وفي السخرية وسيلةً للبقاء.

كان يقول ما لا يجرؤ أحد على قوله، بلهجة بسيطة، نابعة من الشارع، ومن قاع الألم.

“ما بتعرف قيمة البلد إلا لما تسكر الكهربا… وما بتعرف قيمة الإنسان إلا لما ينهار.”

هكذا كان يكتب: بجُمل تختصر أزمات وطن، وتسكن ذاكرة الناس.

خيبة الحب… وجرح لا يُشفى

زياد، الذي أضحك الناس بمرارة، كان يحمل جرحًا شخصيًا لا يندمل.

عاش قصة حب عميقة مع السيدة دلال كرم، كانت ملهمته وشريكة دربه، لكنه صُدم لاحقًا حين اكتشف أن الطفل الذي اعتقد أنه ابنه، لا يحمل دمه.

لم تكن مجرد خيانة عاطفية، بل زلزالًا داخليًا. تحدّث عنها لاحقًا دون مرارة، لكن بجُرح واضح.

ولم يُسجَّل له بعدها أي حب آخر يُذكر. كأن تلك الصدمة ختمت قلبه.

الزاهد في نفسه

رغم شهرته الواسعة، واختلاطه بالنخب، اختار زياد العيش ببساطة نادرة.

ابتعد عن الإعلام، لم يلهث وراء التكريم ولا وراء الأضواء، واكتفى بأستوديو صغير يكتب فيه ويعزف بصمت.

قال ذات مرة: “أنا زاهد عن كل شي… حتى عن نفسي.”

لم تكن مجرد فلسفة، بل قناعة وجودية لإنسان اختبر العالم، وقرر ألا يحتاجه كثيرًا.

إنسان… قبل كل شيء

ما يميّز زياد ليس فقط فنه، بل إنسانيته. كان صادقًا حتى في وجعه، لا يهادن، لا يساوم، لا يقول ما يُرضي الآخر، بل ما يؤمن به.

لم يكتب للجمهور، بل كتب لأنه لا يستطيع أن يسكت. لم يكن يطلب الإعجاب، بل الحقيقة.

قال يومًا:

“اللي بدو يحب، لازم ينسى حاله… واللي نسي حاله، خسر.”

عبارة تجمع تناقضاته كلها: العاشق، الزاهد، المتألم، الإنسان.

ربما خسر زياد الكثير، لكنه ترك لنا أكثر: مرآة نرى فيها عيوبنا، وضحكة تخفي وجعًا، وصوتًا لن يتكرّر.

  “أنا مش كافر”… أغنية أم بيان وجودي؟

من بين أعماله اللافتة، تبقى أغنية “أنا مش كافر” واحدة من أكثر ما عبّر فيه زياد عن

صراعاته الداخلية والفكرية.
ليست مجرّد لحنٍ حزين، بل صرخة رجل قرّر أن يقول ما لا يُقال.
بصوته المتعب، يقول:
“أنا مش كافر… بس الجوع كافر، والذل كافر، والحرمان كافر…”
كأن زياد هنا لا يهاجم الإيمان، بل يهاجم من اختطفوه وضيّعوا معناه. فالكفر، في نظره، لا يسكن القلوب، بل الواقع حين يُظلم فيه الإنسان.

“أنا مش كافر”، ليست مجرد أغنية تلامس الدين، بل صرخة وجودية في وجه مجتمع يخلط بين الإيمان والخوف، بين الأخلاق والنفاق، بين التدين والسلطة.

فالكفر في قاموسه ليس نقيضًا للإيمان بالله، بل نتيجة لخذلان الإنسان للإنسان.

فهذه الأغنية، التي أثارت جدلًا واسعًا عند صدورها، اختصر فيها زياد فلسفته في الحياة: أن العدالة أولوية، والرحمة أقدس من الشعائر، والإنسان أثمن من كل نظام.

لم تكن رسالة ضد الدين، بل ضد من احتكروا تفسيره.

زياد الرحباني رحل بجسده، لكن صرخته “أنا مش كافر” باقية تردد في قلوب كل من آمن بأن الإنسان قبل كل شيء، هو روح لا تُقهر.

لم يكن يبحث عن مديح، بل عن حقيقة؛ حقيقة الإنسان المكسور، والمقاوم، والرافض للظلم تحت أي مسمى.

في نعيه، كتب الصحفي جاد غصن، في مقال مطوّل بعنوان: “زياد الرحباني: من غنّى نشازنا”:

عندما تفاقم المرض في كبده، لم يشأ زياد الرحباني أن يرحل، بعد صراع طويل مع المرض. لم يرد معركة جديدة. فبعد 69 عامًا من مواجهة علل هذا العالم المتهالك، صار حمل الحياة أثقل من أن يُحتمل. وليس في زراعة كبدٍ ما يعيد الحياة لمن عاش عمره في كَبَد.”

اظهر المزيد

عزيزة حلاق

مديرة مجلة بسمة نسائية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

تم اكتشاف Adblock المرجو وضع مجلة بسمة في القائمة البيضاء نحن نعول على ايرادات الاعلانات لاستمرارية سير المجلة. شكرا