
بقلم: عبد الرفيع حمضي
قال صاحب الجلالة في خطاب العرش مساء الأمس:
“فلا مكان اليوم ولا غدًا، لمغرب يسير بسرعتين.”
هذه العبارة، على قِصرها، أعمق بكثير من كونها دعوة إلى سدّ الفجوة بين المدن والقرى. إنها رؤية فلسفية لمغربٍ واحد، تُوزّع فيه الفرص بعدل، ولا تتحول فيه الجغرافيا أو الظروف الاجتماعية إلى قيد يمنع المغاربة من التقدم معًا. فالسرعتان اللتان أشار إليهما جلالة الملك ليستا إسفلتًا ولا جسورًا فقط؛ إنهما مساران للحياة: مسار من يملك مفتاح الفرص، ومسار من يجد نفسه أمام أبواب مغلقة.
خُطب العرش ليست مجرد موعد بروتوكولي. إنها مناسبة سنوية يقف فيها ملك البلاد على حصيلة ما تحقق، وما لم يتحقق، وما ينبغي تصحيحه. وإذا كان الخطاب الملكي مناسبة للتقييم، فإنه أيضًا بوصلة للمستقبل. ففيه تتضح أولويات المرحلة المقبلة: أوراش كبرى، إصلاحات مؤسساتية، ومشاريع تهم حياة الناس اليومية.
أما خطاب هذه السنة، فقد جاء برسالة مركزة: لا تنمية ولا رفاهية ولا أفق، إذا استمر المغرب يسير بسرعتين. إنها لحظة تنبيه جماعي، تُذكّر بأن الإنجازات لا قيمة لها إذا لم تَصل آثارها إلى أبعد قرية.
قبل أقل من شهر، وفي قرية لا تبعد سوى ثلاثين كيلومترًا عن مدينة وزان، فقدت أسرة أحد أحبائها. لم يكن ألمها الأكبر يوم الجنازة في الحرّ القائظ فقدان العزيز فحسب، بل أيضًا البحث عن ماء الشرب للمعزين. تحركت الاتصالات والتدخلات في كل اتجاه، فقط لتوفّر الجماعة صهريج ماء يروي عطش الناس. هذه الصورة البسيطة تقول كل شيء: السرعتان ليستا طرقًا ولا جسورًا؛ هما واقع يفرّق بين مغربٍ تصل إليه التنمية، ومغربٍ يعطش على بعد دقائق من مدينة.
وما يجب التوقف عنده، أن هذا الخطاب الملكي السامي ليس مجرد تنبيه، بل هو دعوة مزدوجة: دعوة للإنصاف ودعوة للمصالحة. إنصاف لمغرب ظل على هامش التنمية لعقود، ومصالحة مع فضاءات جغرافية وسوسيو-اقتصادية لم تنل نصيبها منذ الاستقلال. فحين يدعو صاحب الجلالة إلى مغرب يسير بسرعة واحدة، فهو لا يتحدث عن خرائط وطرقات فقط، بل عن إعادة دمج مناطق كاملة في الحلم الوطني، كي لا تظل خارج الزمن، أو خارج الأمل.
لقد اعتدنا اختزال التنمية في الطرق والمباني والمشاريع، لكن ما قصده الخطاب الملكي أعمق بكثير: العدالة المجالية ليست في الإسمنت وحده، بل قبل ذلك في عدالة توزيع الفرص: التعليم، الصحة، الماء، سوق الشغل، الإدارة… هذه هي السرعة الحقيقية لأي مجتمع.
تجارب العالم تثبت أن أكبر مصدر للفوارق ليس قلة الإمكانات فقط، بل سوء التدبير. بلدان كثيرة تملك ثروات هائلة، لكنها تركت مواطنيها يسيرون بسرعات متفاوتة، لأن الفساد، وضعف الكفاءة، والقرارات المتسرعة، أجهضت أحلامهم. ولذلك، فإن تحقيق سرعة واحدة للمغرب يعني أولًا: وضوحًا في الرؤية، إدارة حديثة وشفافة، ومحاسبة صارمة، حتى تصل الاستثمارات والسياسات إلى من يحتاجها، لا إلى من يعرف فقط “من أين تؤكل الكتف”.
إن رفض المغرب بسرعتين ليس شعارًا، بل مشروع ملكي يقوم على:
– مدرسة قوية لكل طفل، حتى يكون التعليم نقطة انطلاق للارتقاء؛
– صحة عادلة تضمن الحق في العلاج دون تمييز بين مدينة وقرية؛
– اقتصاد منفتح يخلق فرصًا للشباب، بعيدًا عن المركزية المفرطة؛
– إدارة منصفة تقطع مع الامتيازات غير المستحقة والزبونية؛
وأخيرًا حكامة رشيدة، لأن الفوارق غالبًا ما تُصنع في مكاتب سيئة التدبير، قبل أن تتجلى في الواقع.
المغرب الذي يريده جلالة الملك هو مغرب يسير بسرعة واحدة، وفرص متكافئة للجميع. ونجاحنا في هذه الرؤية لن يُقاس بعدد الكيلومترات من الطرق فقط، بل بالمسار الذي سيقطعه كل طفل نحو مستقبله… وأيضًا بمدى قدرة كل أسرة، حتى في أبعد قرية، على الحصول على ماء بارد في يوم جنازة حارّ، دون أن تنتظر “التدخلات.