
تحدّيات العيش المشترك
بقلم: عبد الرفيع حمضي
ظلّ السكن في المغرب مرتبطًا بالنموذج التقليدي للدار المغربية، حيث كان الفناء الداخلي (وسط الدار) مركز الحياة الأسرية، وحيث تُتّخذ القرارات الحاسمة حول مائدة الشاي بعد صلاة العصر.
أما الجدران بين المنازل، فكانت تفصل دون أن تعزل. وفي المدينة كما في البادية، ظل المنزل الفردي الشكل الطبيعي للسكن، مجسِّدًا نمطًا من الحياة يقوم على الأسرة الممتدة، وعلى علاقات الجوار والقرابة الوثيقة. حتى شاع في الوعي الجمعي الحديثُ النبويُّ الشريف: “ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه.”
أما اليوم، فنحن أمام صورة مختلفة تمامًا. فمع تسارع التحولات العمرانية، برز نمط جديد من التمركز السكاني قائم على السكن العمودي. وتشير معطيات الإحصاء العام للسكان والسكنى لسنة 2024 إلى أن حوالي 62% من المغاربة يعيشون اليوم في شقق داخل عمارات أو إقامات، مقابل 35% فقط سنة 2004.
لكن هذا التحول العمراني العميق لم يُواكبه دائمًا تحولٌ مماثل في الثقافة والسلوك. إذ استيقظ المغاربة ليجدوا أنفسهم يقطنون داخل فضاءات مشتركة، معلَّقين بين جيران فوقهم وآخرين تحتهم، ومربوطين بمصعد كهربائي، وإنارة درج، وحديقة صغيرة (إن وُجدت)، و”سنديك” يدبّر الشأن اليومي… وهي كلها عناصر تستوجب نمطًا مختلفًا من التفاعل وتحمل المسؤولية الجماعية.
غير أن الواقع يُظهر أن هذا التحوّل في الشكل لم يُنتج تحوّلًا موازِيًا في السلوك. فقد أظهرت دراسة ميدانية أُنجزت بإحدى المدن المغربية أن 80% من السكان يقتصر تواصلهم مع الجيران على التحية فقط. وكلما ارتفع المستوى التعليمي والاجتماعي، تقلّصت العلاقات أكثر (بونجور والسلام!).
مما يعني أن الحداثة المعمارية لا تُنتج بالضرورة حداثة اجتماعية، بل قد تعزز الفردانية والعزلة.
في كثير من الإقامات، تتحول الحياة المشتركة إلى مصدر توتر دائم، بسبب امتناع عدد من السكان عن المساهمة في التكاليف الجماعية: صيانة المصعد، الإنارة، الحراسة، النظافة، أو حتى الحدائق. والمفارقة أن هؤلاء الممتنعين لا ينتمون بالضرورة إلى فئات معوزة؛ بل كثير منهم أصحاب سيارات فاخرة، يدرّسون أبناءهم في المدارس الخاصة أو البعثات الأجنبية، وتفوح من مظهرهم رائحة العطور الراقية. بل فيهم نشطاء جمعويون، أو موظفون كبار، أو مناضلون في أحزاب سياسية.
لكن حين يُطلب منهم دفع 200 درهم شهريًا، يتحوّلون فجأة إلى صامتين يجرّون العار خلفهم، أو إلى مشككين لا يتوقفون عن الانتقاد.
والأسوأ، أن هذا الامتناع لا يكون مقرونًا بالخجل، بل يُسند بخطاب تبريري يُظهر انسحابًا من التعاقد المدني داخل أصغر وحدة مجتمعية: العمارة.
فهذا يقول: “أسكن في الطابق الأرضي، لا أستعمل المصعد!”
وذاك يردّد: “أسافر كثيرًا، لا أستهلك الإنارة ولا أستفيد من الباحة!”
وثالث يعلن: “أنا غير متزوج، لا أبناء لي يستفيدون من الحديقة!”
ويتضامن معه رابع: “لا أرى أي إصلاح فعلي لأساهم فيه!”
أما الخامس فيصيح: “السنديك؟ مجرد عصابة… لن أدفع لهم شيئًا!”
هذه الذرائع لا تعكس فقط أنانية ضيقة، بل تكشف خللاً عميقًا في فهم معنى العيش المشترك.
فهذا المفهوم لا ينبغي أن يُختزل في شعارات أخلاقية مستهلكة، بل يجب أن يُفهم كمنظومة مدنية قائمة على التزامات واضحة ومسؤوليات متبادلة. وفي أبسط صورها، تبدأ هذه الالتزامات بالمساهمة المنتظمة في تدبير الفضاء المشترك، لا التنصّل منه.
فالعلاقة بالسكن ليست علاقة بالجدران، بل مرآة لعلاقتنا بكل ما هو عمومي: من المدرسة والمستشفى، إلى الانتخابات والمجال البيئي.
ومن يعجز عن الالتزام بواجب بسيط داخل العمارة، لن تكون مشاركته في الشأن العام إلا شكلية أو انتقائية.
فاختلال السلوك المدني في فضاء السكن هو، في الغالب، صورة مصغّرة لاختلال أوسع في علاقة المواطن بالدولة والمجتمع.
صحيح أن المشرّع المغربي، من خلال القانون 18.00 المنظم للملكية المشتركة، مع تعديلاته الأخيرة (106-12)، حاول تأطير هذه العلاقات، لكن النصوص وحدها لا تُنتج التحوّل إذا غاب الحاضن الثقافي والتربوي.
فقبل القانون، هناك الوعي؛
وقبل الإلزام، هناك التربية؛
وقبل الغرامة، هناك الانتماء.
“فالمواطن الحديث لا يُعرف فقط بوضعه القانوني، بل بقدرته على التصرف عقلانيًا في الفضاء العمومي، والمشاركة في إنتاج القواعد التي تحكم هذا الفضاء.”
ــ يورغن هابرماس
فالسلوك المدني هو الذي يصنع المواطن، لا العكس.
وكل تهاون في هذا السلوك، مهما بدا بسيطًا أو مبرّرًا، هو مساس مباشر بفكرة العيش المشترك، وبأركان الدولة المدنية الحديثة.
ربما آن الأوان لنتساءل: هل نعيش معًا حقًا… أم نُجاور بعضنا فقط؟