انضموا لنا سيسعدنا تواجدكم معنا

انضمام
ثقافة وفنون

” وكأني أحلتني حدود بلادي..”

بقلم: مريم أبوري*
تهجير قسري للشاعر جمال خيري في كتابه الأسود.

ما إن وقعت عيناي على غلاف ديوان “وكأني أحلتني حدود بلادي” حتى شدني لون فضائه الأسود، وقد تناثرت كلمات العنوان باللون الأحمر، كأننا في موقع جريمة معتم، انتشرت فيه بقع الدم، واسم الشاعر، هو الآخر كأنه بقعة قانئة أخرى. يا ترى ما هي هذه الجريمة التي تركت كل هذا السواد وكل هذه الحمرة؟! وما هي حالة الشاعر / الضحية؟!
هناك شريط أبيض في أسفل الغلاف، كأنه حزام يشد عضد الديوان، يتوسطه سلك شائك أحمر يذكرنا بحمرة العنوان وبأن حدته قد تصيب من يلمسها بجروح.

يا ترى، هل قصائد الديوان ستكون جارحة الوقع على القارئ؟  على الشريط الأبيض نجد كلمات تكشف لنا بعضا من غموض الديوان،” ظلال الذكرى”، وهذا قد يحيل إلى أن الداخل إلى فضاء الديوان، سيجد صدى وتأثير الذكرى على الشاعر. و” و..الحروف الأخرى ” و “نصوص زنقة شاطو دو”، تتضمن ربما قصائد كتبت في مسقط رأس الشاعر، وأشعارا أخرى نظمت في المنفى.
وفي أسفل الغلاف كلمة ” شعر ” كأنها شامة الجمال، طليت هي الأخرى بالأحمر القانئ.
قد يكون انطباعي هذا عن الغلاف فيه تشاؤم كبير، ويكون اللونان الأحمر والأسود عنوان أناقة ورقي سنستمتع بهما ونحن نمخر مع شاعرنا جمال خيري في عباب قصائد ديوانه.
يحمل العنوان الشعور والإحساس بالاغتراب والاقتلاع من الوطن قسرا.  وجملة “أحلتني” تشير إلى الانزياح، كأن الشاعر قد فقد الانتماء إلى وطنه الذي تغير مفهومه لديه. وهذا ما تؤكده ربما جملة “حدود بلادي” التي تحيلنا إلى حواجز قد تكون سياسية، أو اجتماعية أو نفسية أو فكرية، مما يجعل عودة الشاعر إلى الوطن أمرا صعبا بعد ان كان يعيش الحصار داخله.
يضم ديوان الشاعر جمال خيري المقيم بفرنسا، ثلاث مجموعات شعرية، نظمت خلال عشر سنوات من 1986إلى 1996. كانت الأولى ” ظلال الذكرى” التي كتبت في المغرب والثانية “و…الحروف الأخرى ‘ والثالثة ” نصوص زنقة شاطودو” كتبت بفرنسا.
عنوان الديوان كما عناوين المجموعات الثلاث، تعكس أزمة الهوية والانتماء لدى الشاعر، وحيرته بين الحنين ورفضه للذكرى ولفكرة العودة.
المجموعة الأولى ‘ ظلال الذكرى ‘ التي كتبت بالمغرب، كانت أول قصائدها “ذاكرة الانهيار “، بداية اضطرابات نفسية قوية يصدم بها القارئ. فالشاعر بدون شك، تركت فيه ذاكرة الانهيار أثرا نفسيا كبيرا، وهذا ما جعله يبدأ بها حكايته، حكاية سواد وسقوط:
” ليل يطل من سرة ليل،
ها زمن يشده عشق الطلول
إلى السقوط
ولا شيء غير انكماش الجبين
على صمت الخطى ”
حكاية ما تبقى من عشق وتجاعيد الاقتراب من الشيخوخة. حكاية “وحل المرارة ” حيث لم تبق له إلا:
” شمعة
لا توقظ نبض الذاكرة “.
قد يوقظ هذا الانهيارعلى ” الأرض ” “الظل والأشياء ” التي تتعرى فيه:
“كانت البداية تيها في السؤال،
لوقف الصدى،
أذكر الكهف.
المزار.
الشجرة الملغومة بالنفي.
أنسى ..
أجمع الأشلاء سدى”
فتصبح الأشلاء ” قصائد للأنا والرمل” حيث “أبهة الأرض” و”خطاف الشعر” “خارج الرمل ” عندما:
” ضاق بالأفق…الأفق
نعد الخطو
نخطئ.
نعيد العد …
نهزأ
نعيد الخطو..
نبطئ
وقطربُّل، تسكن محاجر الطرق”
في قمة هذا الوجع الذاتي لشاعرنا، لم ينس ” إهداءات ” إلى “العتبات” حيث يخبرنا بأنه:
” أبي، ليس مني،
ليغدو أبا.”
وإهداء ” إلى بلاغة الصمت، ومن يمرون صامتين” مخاطبا نفسه:
“آن لك، أن تخرج لغزو الطواحين.
أو تحمل الصخرة،
وحدك….
وتطوف.
…..
ومزيدا من الصمت، يكفي..
جسرا
إلى الضفة الأخرى.”
كأنه يهرب من تيهه إلى الصمت، معرجا نحو التضامن مع عمال جرادة ” إلى عمال جرادة “، ويجد نفسه في شموخ النخلة التي:
” يحتج لشموخها
وجه القمر ” في ” إلى غابر الظاهر “.
ولم ينس إهداءه “إلى أيام العدس”، تلك الأيام التي كانت:
“وكأن ما مر بنا…غيمةٌ
هش أغسطس،
فأشرق خذ خليلته،
ومضت”
ترك الإهداءات ليقفز إلى نهر ” المرآة و…” فيرى فيها حي ونساء يثمرها الشجر وحي هذا:
” أتى من طينة… (ل) يحرر الأحياء “. ويفتت حروف ” القيد”:
“ا
لا شيء يشبه خطانا غير هذا الأفول.

ل
هل ألفنا القيد؟
أم هل القيد منا؟

ق
بالأمس،
نام أبونا….
فأفقنا على امرأة
خلصت صلبه،
وأرضعتنا الشهوة الأولى.

ي
واليوم…؟
ها نفيض من عيوننا،
ونحلم بالغيث،
والفراش،
والمدى.
ها نتصادى.

د
اليوم ..
ما علينا غير أن نكون.
أو نسلم الخطى لهدأة الأفول”.
ليصل إلى أنه “لا يغير الشعر ما بقوم، بل يهذب مما بأنفسهم”، حيث في “الشارع” يتيه في سؤاله عند كل مغيب ويبحث:
“… عن بديل لرسومه،
وعن كلمة
ألفظها…
فيكون الذي يشد العابرين إلى حلم
الشعراء”.
وفي الشارع بهرته “النخلة” مثلما انحناء أهدابها وهو:
” يعري الفراش في عرصاتها
ويداعي الأفق في ذراها”.
ينتقل بنا الشاعر إلى المجموعة الثانية: “و…الحروف الأخرى “، و  إلى الضفة الأخرى ، إلى المنفى، إلى فرنسا حيث الحنين سيصل إلى ذروته، الحنين للحبيبة نجاة ، للوطن “العين، للحبيبة والوطن ، إلى نجاة “، حنين يقسو عليه وهو يقارن ما وجده في أرض الغربة ، أو بالأحرى تحت الأرض  حيث هناك حياة أخرى ، حياة  محطات RER، التي ستكون وسيلة تنقله في زقاق حياته الجديدة ، حياة المهجر والتهجير.
سيرتفع صوت أنينه من شدة ألم  الغربة والحنين و” طرقتَ  الأرض.. ولم يسعفك الصدى!؟”، قال مخاطبا نفسه وهو يكتب ” مراسلة من المنفى”، ينعى جرحه إطارا، إطار الحنين للأب والحبيبة، وشرخ الوطن في الصدر..
واصل نعي حنينه والرحيل في رسالته” إلى سعيد” و” على الهامش ” حيث الموت إذ لفظته الحدود إلى ” قصيدة فاتح السين”، الهذيان في الوحدة، ومحادثات النتر دام عن الحكمة والتحريف، وعن مريم والروح.
تلهبه حرقة رمل فأصبحت ” شاهدة لمالك أوسكين “، الذي قتلته أيادي الغدر، أيادي القوات السريعة الفرنسية.
وفجأة يأخذنا معه إلى وجع آخر، وجع الوطن العربي الكبير وخيبته فيه، متسائلا كيف وقعت كل هذه المآسي، “كيف… والقصيدة لم تنته…!؟”.
وأخيرا يرمينا في يم  المجموعة الثالثة: “نصوص زنقة شاطودو” حيث لا زال وجع الذكرى يحفر في روح شاعرنا ومدينته :
“والذكرى ، كمثل الوطن حين فظظ واعتدى
جرح
يبرعم  في ثنايا قروح
تقيح، المدينة ”
في”  شاطودو ” المهداة “إلى خطاف  الشعر والأغاني ” ، يحن إلى الوطن، التي ينعته بالصخرة ( سيزيف) التي يدحرجها حين يحن :
” أو حين
يرفرف في ذاكرتي العلم
و أراني أركض
ثقيلا مني الخطو
كما في الحلم المزعج
و إني أبايع  هذا السقوط ”
يواصل حمل ثقل ذاكرته في المهجر وهو يناجي “فضركوم”  و هي قرية من ضواحي ورززات  :
“وا  فضركوم،
ها كالسقط أنزلق
في صمت ،
وفي الظلام ،
تشحن الشارتر بمن حن
ومن شجن
و أنا …
أحمل ذاكرتي في طي المتاع،
كشيخ،
يحاصرني العيش على حافة الموت ……

وأحبو
نحو الوطن
حواجز لا تشبه أورلي في شيء
تغنج بالتفتيش….”.
تبقى رائحة البلاد عالقة به وبروحه وقد هاجرت معه ، لكنه يخاف  ألا يذكره وطنه و كل الأشياء والتفاصيل الصغيرة التي تربطه به ،بعد أن ه تصحر،  يقول ” ها تصحرت.. فهل تذكرني الخطاطيف…؟” وقد أصبح كل هذا جرحا عميقا يحمله معه :
‘ فيا أنت،
يا  جرحا أحمله و أسيح معه
إني أرمي بما حلمت فيك من جميل
وأرمي  بما لي فيك من ذاكرة ” .
ورغم كل هذا الجرح فشاعرنا يتشبث بحق انتمائه لوطنه وحقه في ترابه ليدفن فيه .
وجد الأنيس، الزوجة التي قد تخفف عنه قليلا من الحنين إلى الوطن والحبيبة ، فكان في ” المبعد والمسلة ” التي أصبحت ملاذه، يدعوها إلى أن تعلمه، فيقول:
”  علميني كيف أقسو
علميني كيف أطوي  أشرعتي
وكيف أرسو
أو ضميني إلى خصرك
في صمت
إلى دفئك الوردي…”
يشكو إليها تعبه من الحلم والأمنيات والصمت و من كل الكلام، فتدعوه  بكل دفء وحب :
‘ إذن …توسد غربتي، وارضع إبهامي كي تنام ..”
لم يتخلص شاعرنا من غصة التهجير و الغربة إلى أرض أصبح فيها مجرد نعت قدحي  ” البنيول ” ، لازمه غضبه من الوطن فتساءل:
” هل وطن
أن تودع دمك  في مسلخ الجمارك
والبوليس
وتنتعل الأكعاب
كي ترقص ذبحك للقصر؟
هل وطن
أن تكتب
ولا يصل البريد إلا مفظوظا
ومغتصبا؟”
لا يريد أن يعدي حبيبته بخيبته بعد أن شكا لها حاله، ولا حتى أن يورثها لطفلته الرضيع التي يهدهدها  كي تنام:
” سأمضي خلف الذي يبقى
في ثنايا القلب ،
وحين تجف
ثنايا القلب
قد تبقى
عيناك تنتظراني
في ظلام المهد ، وجه أمك ينير ،
يطل بالغناء
والدموع
تلتوي
على الحبال كالعشقه
نامي…”
ويبقى الأب حاضرا في جل قصائد الشاعر ،الأب الذي أعطى للوطن الكثير وتنكر له هذا الوطن ، فأصبح عنوانا  لقصيدة ” نشيد الأرصفة ” كإهداء ل ” ما تبقى  من أسود التحرير و ما سيبقى من أولاد الفاسية ” وقد نعاه ونعى  شوقه له عند رحيله عن هذه الحياة :
”  أبي
ربما أخرج من كابوسي هذا
فألقاك
بشوشا
تداعب ما مضى
وتحكي
ربما كان مزاحا
حين أعدوا الوليمة
وكبوا كؤوس الدم
ع
بالشاي
للقائي
ربما…
والقبر !؟
تصيح الأرصفة،
حيثما وليت شوقي إليك
وتشيح
بوجهي عليها …”

عاش شاعرنا “القحط” غربة و تهجيرا ، لا زال يشكو ظلم بلده له ولم يستطع أن يغفر لها حقدها عليه  :
“و كأني أحلتني حدود بلادي
بلادي
لا حقتني بالحقد
أحاقتني
بالحداد  ولم
تحقن دمي لكي أحيا
بل لكي تجتا..
ح بالحظر
ولكي ترتا
……..ح”
ويمتزج في الكتاب الأسود كما يحلو للشاعر أن يسمي الدواوين الثلاثة،  الحنين إلى الوطن والحبيبة، وهما وجهان لعملة واحدة ، فيكون رجاء الشاعر :
” فيا حبذا
لو تحن مثلما
ها أحن إليها وأحبو
إلى حضنها
جريح الحال والذكرى
…………
أحضنها سحابا وألحفها بسيح أتحلل فيها، أنحل ألقحها
ضد القحط وألحقها
بالقم
ح وال…..
فرح”.
انتهى الكتاب الأسود وانتهت دواوينه  الثلاثة ،ولم ينته شعور الشاعر جمال خيري بغصة أنه هُجر من وطنه فرُحل عن حبيبته  والأهل و الأصدقاء وذكريات الطفولة ، وهذا ما عبر عنه بحدة وقسوة في قصائده .
تأرجح الشاعر المهاجر بين الحنين إلى العودة إلى الوطن و الاستقرار في وطن الإقامة الذي استقبله بعد أن طرده وطن المسقط .تأرجح كذلك بين الحنين إلى دفء الوطن و الغضب عليه ومنه.

ونجد في جل القصائد ذلك التداخل بين الوطن والحبيبة والذكريات التي تجمعه بهما وبباقي الأهل والأصدقاء. ولم يغفر للوطن الذي حرمه منهم .يسترجع الذكريات بوجع لم يبرأ منه  رغم سنين الغربة ؛هذه الغربة التي لم تنسه أحوال بلده و الوطن العربي وأصدقائه وأهله بالمغرب و أحوال أسرته الصغيرة المهاجرين بالغربة .
كل هذا الشجن والحزن والتيه والغضب والحنين والغربة والتأرجح  بين العودة  إلى وطن المسقط  أو الاستقرار في وطن  الإقامة ، كل هذا خطه لنا قلم بل قلب وروح الشاعر المنكسران  والمجروحان ، بأسلوب شعري جميل ، أسلوب روض به الشاعر اللغة ولاعبها  تارة بأناقة ولباقة و تارة بغضب و تارة بحزن .
مع هذا الديوان اكتشفت شاعرا مغربيا أرجعني  إلى شعر المهجر العربي المشرقي ولكن بنكهة مغربية و بلغة استسلمت للشاعر  وحالاته  النفسية  التي لخصت ربما بعضا من  سيرته الذاتية و سيرة الكثير من المهاجرين والمهجرين قسرا من بلدانهم.
رغم كل ذلك الحزن و غصة الخيبة والغضب من الوطن والحنين إليه  و الحبيبة و باقي الأحباب، انتهى الكتاب الأسود بذلك الشريط الأبيض، شريط الأمل ونشر الفرح .تكشف لنا قصائده روحه الطيبة ، روح ذلك الإنسان الذي مهما غضب وقسا فهو لا يكره ولا يحقد ولا تبقى في قلبه ذرة ضغينة.
هذا الكتاب الأسود  رغم ما يحضن بين طياته جبال معاناة نجد  فيه  كذلك  بريق الأمل، أمل يشع من رقة ورفاهة روح الشاعر من خلال قصائده التي تجمع بين النقيضين: الغضب و الحنين ،القسوة والحب ، برودة مواقف و دفء أخرى. وخير دليل على ذلك أنه يبدأ الكتاب بالليل – العتمة، القحط وينتهي بالقمح والفرح.
فالديوان عبارة عن سيرة ذاتية شعرية نثرية مما زاده جمالية وعذوبة رغم وجع التهجير والغربة والحنين والتيه. هو ديوان، بل ثلاثة دواوين ينطبق عليها قول أبو الحيان التوحيدي في” الامتاع والمؤانسة”: “أحسنُ الكلامِ ما…قامت ‏صورتهُ بينَ نَظمٍ كأنه نثر، ونثرٍ‏ كأنه نظم…”.
كاتبة مغربية مقيمة بفرنسا*

اظهر المزيد

عزيزة حلاق

مديرة مجلة بسمة نسائية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

تم اكتشاف Adblock المرجو وضع مجلة بسمة في القائمة البيضاء نحن نعول على ايرادات الاعلانات لاستمرارية سير المجلة. شكرا