انضموا لنا سيسعدنا تواجدكم معنا

انضمام
رأيهم

فراس السواح:جسر ثقافي بين العالم العربي والصين

 بقلم: شكيب حلاق

 تقديم: حين يقرأ العربي الصين بعين الفلسفة

في عالم يزداد انغلاقًا حول خصوصياته وهوياته، يظل الاشتغال الجاد على الثقافات الأخرى فعلًا فكريًا مقاومًا بامتياز، لأنه يعيد للمعرفة معناها الإنساني العابر للحدود. من هنا تكتسب تجربة المفكر السوري فراس السواح قيمة خاصة، ليس فقط لأنه انفتح على أحد أقدم وأعمق أنظمة التفكير في العالم، بل لأنه فعل ذلك من داخل الوعي العربي، وبمنهج تأملي يحاول الربط لا الاستيراد.

لقد رأى السواح، من خلال الفلسفة الصينية، منظورًا تربويًا وأخلاقيًا مختلفًا عن المنظومات الدينية التي تشكل وعي الطفل العربي المسلم. فبينما تبدأ التربية الدينية بتوجيه الطفل نحو المطلق والميتافيزيقي، تبدأ التربية الكونفوشية بإعلاء مكانة الإنسان، والنظام الاجتماعي، والانسجام مع الآخر. هكذا أدرك السواح أن الفلسفة، في السياق الصيني، تؤدي دور الدين في بناء الإنسان، لكنها تفعل ذلك بوسائل تنطلق من الواقع لا من الغيب.

إن مشروع فراس السواح لا يكشف فقط عن حس ثقافي نادر، بل يفتح أيضًا أفقًا لتفكير عربي جديد في التربية، والتعليم، وتشكيل الوعي، انطلاقًا من تجربة حضارية أخرى. وهو بذلك يدعو إلى حوار لا بين النصوص فحسب، بل بين الأنظمة التربوية والمرجعيات الفلسفية، بحثًا عن صيغة إنسانية أرحب لتنشئة الأفراد والمجتمعات.

اكتشاف مبكر: من “حكمة الصين” إلى دهشة الفكر

يُعد فراس السواح، مؤلف كتاب “المغامرة الأولى للعقل”، من أبرز المفكرين والكتّاب السوريين المعروفين بأعماله في مجالات الميثولوجيا، وتاريخ الأديان، والفلسفة، لا سيما في سياق الفكر القديم والحضارات الشرقية. وعلى الرغم من أن أعماله ركزت أساسًا على الأساطير المسمارية والسورية والكنعانية وجذور الأديان، فإنه لم يُعرف بانخراطه العميق في دراسة الفلسفة الصينية، وهو ما يدفعنا لتخصيص هذا المقال لاستعراض تأملاته في هذا المجال.

بدايات اللقاء مع الصين

يعود لقاء فراس السواح بالفكر الصيني إلى فترة شبابه، عندما قرأ كتابًا باللغة الإنجليزية بعنوان حكمة الصين. أيقظ هذا الكتاب في نفسه شغفًا كبيرًا بالثقافة والفكر الصيني، خاصة بالتيار الطاوي، ما دفعه إلى الشروع في مشروع ترجمة كتاب “الطريق والفضيلة” (Tao Te Ching) للمعلم لاو تسي إلى العربية. ويُنظر إلى هذا العمل بوصفه مرجعًا في الحكمة الخالدة، التي تجمع بين بُعدَي التنظيم الاجتماعي والنمو الشخصي.

“قصتي مع الفكر الصيني بدأت عام 1961 عندما قرأت كتابًا مترجمًا من الإنجليزية بعنوان حكمة الصين. هذا الكتاب فتح أمامي بابًا لفكر فلسفي جديد لم نعرفه في قراءاتنا للفلسفة اليونانية والعربية؛ فكر له طابعه الخاص في الأسلوب والمقدمات والأهداف. ما ميّزه بالنسبة لي هو غياب البعد الميتافيزيقي فيه، وتركيزه على المجتمع، والأخلاق، والعلاقات الإنسانية، والسياسة. إنه فكر وجودي بمعناه العام، يبدأ وينتهي بالإنسان”.

فلسفة أم ديانة؟ التربية بوصفها مدخلًا لفهم الحضارة

يرى السواح أن الفلسفة في الثقافة الصينية تؤدي دورًا مشابهًا لما تؤديه الأديان في الثقافات الأوروبية والشرق أوسطية. ويستشهد بالمقارنة بين تعليم الأطفال في الصين والعالم العربي الإسلامي، فيقول:

“إذا كانت آيات القرآن هي أول ما يتعلمه الطفل المسلم بعد الأبجدية، فإن الفلسفة هي أول ما يتعلمه الطفل الصيني بعد تعلّمه الرموز الصينية، وتُعد كتب كونفوشيوس الأربعة من أول المناهج التي تقدم لهم. وكما يُعَلَّم الطفل المسلم تلاوة القرآن بعد تعلّمه القراءة، فإن الطفل الصيني يُزوّد بكتيب تلاوة يضم عبارات مختارة من كتب كونفوشيوس، تُنسق في جمل ثلاثية الإيقاع تُسهل الحفظ. وإذا كانت الآية الأولى في القرآن تقول: الحمد لله رب العالمين، فإن العبارة الأولى في الكتيب الصيني تقول: الطبيعة الأصلية للإنسان طيبة. الأولى تضع الإنسان في مركز الدين، بينما الثانية تضعه في مركز الفلسفة”.

السواح ولاو تسي

انطلاقًا من رغبته في إيصال الفكر الطاوي إلى القارئ العربي، شرع السواح في ترجمة كتاب Tao Te Ching للاو تسي، الحكيم الذي يُعتقد أنه عاش في القرن السادس قبل الميلاد.

“في عام 1998 أنهيت ترجمة كتاب الطريق والفضيلة. اعتمدت في عملي على أربع ترجمات موثوقة عالميًا، وأرفقته بمقدمة طويلة حول تاريخ الحكمة الصينية، إلى جانب تعليقات تمثل تقريبًا نصف الكتاب”، يوضح السواح.

ومع ذلك، فإنه يفضل وصف عمله بـ”إعادة إنتاج” وليس ترجمة بالمعنى المهني الدقيق، إذ يعتمد على قراءات متعددة للنص ويعيد صياغته بالعربية، قائلاً:

“أنا لا أترجم النص الصيني، بل أعيد إنتاجه بلغة عربية، كأن لاو تسي أو كونفوشيوس قد كتبه بالعربية”.

النشر في الصين

لفت هذا العمل نظر البروفيسور شو تشينغ قوه، المختص باللغة والثقافة العربيتين، وعميد كلية الدراسات العربية بجامعة الدراسات الأجنبية في بكين، الذي كان آنذاك في دمشق. وبعد عودته إلى بكين، تواصل مع السواح، واقترح عليه نشر الكتاب في دار النشر الصينية للغات الأجنبية. وافق السواح، وتمت مراجعة العمل عن بُعد، قبل أن يلتقيا في دمشق ثم في بكين خلال ندوة حول الحوار الثقافي العربي الصيني. صدر الكتاب عام 2009 بعنوان لاو تسي.

الإقامة في الصين

في عام 2012، ومع احتدام الحرب الأهلية السورية، عرض شو تشينغ قوه على السواح منصبًا تدريسيًا في جامعة الدراسات الأجنبية ببكين، فقبل العرض وانتقل إلى الصين.

“أخبرني الدكتور شو بوجود منصب شاغر في الكلية، فرحبت بالفكرة، وأقمت في بكين ست سنوات، درّست خلالها تاريخ اللغة العربية، وتاريخ الأديان في الشرق الأوسط، والإسلام والقرآن للطلاب في الدراسات العليا”، حسب تصريحه.

ثمرة التعاون الصيني-العربي

بعد نجاح الطبعة الصينية من Tao Te Ching، واقتراح إعادة نشره بطبعة جديدة، اقترح شو تشينغ قوه مشروعًا مشتركًا جديدًا حول كتابي أقوال كونفوشيوس وكتاب منسيوس، وهما من أعمدة الفلسفة الكونفوشية. حظي المشروع بدعم الهيئة العليا لمعاهد كونفوشيوس، وبدأ السواح العمل على النص اعتمادًا على ترجمات متعددة، قبل أن يشرع في مراجعة دقيقة للنص الأصلي الصيني، استمرت ستة أشهر.

“كنا نلتقي في منزلي ثلاث مرات أسبوعيًا، وكانت مناقشاتنا مثمرة، رغم الخلافات، فقد كان يميل إلى الترجمة الحرفية، بينما كنت أميل إلى التعبير عن المعنى المقصود. ورغم صعوبة الاتفاق، توصلنا إليه في النهاية”.

صدر الكتاب عن دار التكوين بدمشق بعنوان فصول من الفلسفة الصينية، وهو متاح مجانًا عبر موقع مؤسسة هنداوي.

خاتمة

باختصار، يشكل فراس السواح نموذجًا لجسر حي بين الفكر العربي والفكر الصيني، خاصة الطاوي، الذي يعتبره مصدرًا ثريًا للحكمة العملية والتناغم الإنساني. من خلال ترجماته وتحليلاته، أتاح للقارئ العربي الاطلاع على النصوص الكلاسيكية للفلسفة الصينية دون الحاجة لوساطة غربية. وبهذا، فتح بابًا لحوار عميق بين التقاليد الفكرية الإسلامية والعربية من جهة، والفكر الصيني من جهة أخرى، حوارٌ يتجاوز الفروقات الثقافية نحو آفاق من الفهم الإنساني المشترك.

 

 

 

 

 

 

 

اظهر المزيد

عزيزة حلاق

مديرة مجلة بسمة نسائية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

تم اكتشاف Adblock المرجو وضع مجلة بسمة في القائمة البيضاء نحن نعول على ايرادات الاعلانات لاستمرارية سير المجلة. شكرا