
بقلم: عبد الرفيع حمضي
التاريخ يقول: الداخل لا يحمي من لا يُصلحه، بل يُسهّل اختراقه.
ما يحدث هذه الأيام من قصف إسرائيلي على إيران، وردّ طهران دفاعًا عن نفسها، ليس مجرّد مواجهة عسكرية أو استعراض قوة، بل كشفٌ علني لهشاشة داخلية إيرانية، ونقطة تحوّل في الصراع الإقليمي.
ففي قلب طهران، داخل دوائر الدولة العليا، استهدفت إسرائيل قادة وعلماء كانوا مجتمعين في جلسة أمنية رفيعة، داخل منطقة يُفترض أنها غير قابلة للاختراق. وكما هو معروف، سبق هذا الهجوم الأخير عمليات واغتيالات دقيقة، من أبرزها:
-قاسم سليماني، رجل الظل والنفوذ، صُفي في بغداد.
-إسماعيل قاآني (وليس هنية، لأنه قائد حماس وليس تابعًا لإيران)، أو شخصية مقربة من النظام، قُتل في إقامة محروسة داخل إيران.
-حسن نصر الله (أيضًا لم يُقتل حتى تاريخه، فربما تقصد شخصية أخرى؟).
هذه الضربات لا تشير، بالضرورة، إلى براعة إسرائيلية خالصة في العمل العسكري والاستخباراتي، بقدر ما تفتح الباب لتساؤل أعمق:
هل جاء الاختراق من الخارج فقط، أم أيضًا من الداخل؟
ففي نظام مغلق كالنظام الإيراني، حيث يُسحق الإصلاح، ويُستبعد التغيير، ويُقمع حتى النقد الصامت، يتحوّل الداخل إلى بيئة حاضنة للتفكك… وربما للخيانة كذلك.
إيران ليست دولة هامشية أو ناشئة، بل وريثة حضارة فارسية تمتد لآلاف السنين. مجتمعها متعلم، متنوع، مثقف، ضارب في الجذور الروحية والفكرية. وقد أثبت شعبها، مرارًا، حسّه العالي بالكرامة والحرية، وخرج بمئات الآلاف إلى الشارع دفاعًا عن حقه في التعبير… والإصلاح، ولِمَ لا؟ التغيير.
لكن المفارقة أن هذا الشعب الراقي يُدار منذ عقود بنظام ديني شمولي، يتعامل مع السياسة كامتداد للعقيدة، ومع المواطن كـتابع لا شريك.
منذ عام 1979، حين استولى الإسلام السياسي على الحكم بقيادة آية الله الخميني، اتجهت البلاد نحو نمط حكم عقائدي مغلق، يُجرّم المعارضة، يصادر الحريات، ويحتكر تفسير الدين والدولة معًا.
كل مشروع إصلاحي أُجهض بشكل منهجي، حتى تلك التي خرجت من داخل النظام:
محمد خاتمي، الذي سعى إلى إعادة التوازن بين الدولة والمجتمع، حُوصِر وخُنق إعلاميًا ومؤسساتيًا.
التيار الإصلاحي في البرلمان، مُنع من الترشح وأُقصي من أي تأثير فعلي.
الحراك الأخضر في 2009، قُمِع دمويا، وسُجن رموزه دون محاكمة.
احتجاجات 2017 و2022، خاصة بعد مقتل مهسا أميني، قوبلت بقبضة أمنية خانقة.
المثقفون، الطلبة، الفنانون… إما في المنافي، أو السجون، أو تحت سيف الرقابة.
لم يُترك للإيرانيين سوى الطاعة، أو الصمت، أو الهروب. لكن بعضهم، بما فيهم عناصر من داخل النخبة، اختار طريقًا رابعًا: الانتقام.
لا بالرصاص… بل بالمعلومة، بالتسريب، بالتواطؤ.
فالتاريخ يقول: الداخل لا يحمي من لا يُصلحه، بل يُسهّل اختراقه.
وفي هذه الحالات، لا تُعدّ الخيانة فعلاً آثمًا، بل صرخة ضد القمع، وانتقامًا من نظام أغلق كل النوافذ.
والتاريخ يعرف هذا النمط جيدًا:
في نهاية الدولة العباسية، تحالف بعض القادة مع المغول.
في الأندلس، ملوك الطوائف فتحوا المدن أمام الإسبان بسبب صراعهم مع الخلافة.
في فرنسا زمن الاحتلال النازي، تعاون كثيرون مع الحلفاء ضد حكومة فيشي المتواطئة.
حين ينهار الأمل في الإصلاح، تنشأ الثغرات الأمنية. لا تُسد بالقوة، بل بالثقة.
وهكذا، فإن إسرائيل لا تخترق إيران بالتقنيات فقط، بل بالاحتقان الداخلي، وبمن يُسهّل… من يُبلّغ… من يصمت حين يجب أن يرفض.
إن دقة إسرائيل في هذه العمليات ليست مجرد درس استخباراتي، بل مؤشر على مرض داخلي عميق، أصاب النظام الذي كلما زاد في طمس التعدد وتجريم التفكير، زادت الطعنات من الداخل.
فالاختراق لا يأتي من السماء… بل من صدور خنقها استبداد العمائم في طهران.