جدّي العزيز… الحرب صارت بثا مباشرًا

حديث بسمة: عزيزة حلاق
رحل جدّي منذ عقود خلت، ورحلت معه قصصه التي كان يرويها بنبرة تختلط فيها الحكمة بالحسرة.
كان يقول لنا دائمًا:
“أنتم جيل لم تعيشوا شيئًا مما عشناه نحن…”
ثم يبدأ في سرد فصول من الحروب التي عايشها: عن القصف والبرد، عن الجوع، عن الأخبار التي كانت تصل متأخرة وتحمل نَفَس الموت في كل سطر.
أستحضر كلام جدّي اليوم، وأنا أحتسي قهوتي، أفتح هاتفي، وأطالع بثًّا مباشرًا للحرب الجديدة بين إسرائيل وإيران، بصوت واضح وصورة عالية الدقة، مرفقة بتحليلات فورية وخريطة تفاعلية لأماكن الغارات.
وأودّ أن أقول له:
“جدّي… صدّقني، نحن نعيش ما هو أقسى. فقط بصيغة مختلفة.”
في زمنه، كانت الحرب مأساة جماعية.
أما في زمننا، فهي عرض حي، ومحتوى مفتوح على مدار الساعة.
نتابع مسار الصاروخ، وهو لا يزال في السماء.
نتابع الحرب وكأنها مسلسل موسمي: أبطال، خصوم، انقلابات، مفاجآت، تسريبات حصرية.
حتى الرعب أصبح له مخرج تصوير، والموت صار قابلًا للإعادة بجودة HD.
لكن هناك حربًا أخرى، يا جدّي، لا تقلّ دمارًا:
حرب التخندق.
صرنا نسأل : “مع من أنت؟” ونصنف..
من يتكلم يُتّهم، ومن يصمت يُتّهم، ومن يحاول أن يفهم يُجَرَّد من نواياه.
نخوض معارك وهمية في تعليقات فايسبوك،
نتبادل الاتهامات أكثر مما نتبادل الحزن،
نتراشق بالتحليلات، وننسى أن الحرب لا تفرّق بين رأي وآخر،
وأن الطائرات لا تنتبه لميولنا الفكرية.
نحن جيل لا يعيش الحرب فقط، بل يعيش معها الانقسام، والضجيج، وتخمة التحليل، وبلادة التكرار.
حتى جائحة كورونا، التي أوقفت العالم يومًا، والتي اعتقدنا أنها أكبر كارثة عرفتها الانسانية جمعاء، صارت تُذكر اليوم على أنها كانت مجرد “تسخينات” لما هو قادم.
والقادم أسوأ….
جدّي لم يكن ليحتمل كل هذا.
ربما كان سيحني رأسه، ويهمس:
“الحرب التي عشناها كانت تقصفنا من الخارج… أما أنتم، فتُقصفون من كل اتجاه، حتى من الداخل.”
هذه هي الحقيقة.
الحرب التي نعيشها، لا تسفك الدماء فحسب،
بل تمزّق العلاقات، وتحوّل كل رأي إلى معركة.
هي حرب أخرى، أخطر من تلك التي تُدار بالصواريخ:
حرب المواقف، حرب التخندق.
صارت الكارثة ميدانًا للتصنيف:
من لم يتحدث يصبح متواطئًا، ومن تكلّم متَّهَمًا،
ومن حاول أن يفهم يُطعن في وطنيته، أو يُتّهم بالانحياز.
صارت الحروب تفجّرنا من الداخل:
نختلف في المقاهي، وعلى مواقع التواصل، حتى في المجموعات العائلية.
نرفع أصابع الاتهام في وجه بعضنا، وننسى أن القصف الحقيقي لا يميّز بين موقف وآخر.
نعم، لم نعش الحرب كما عاشها أجدادنا،
لكننا نعيشها كل يوم، على جبهتين: جبهة الأحداث، وجبهة الانقسامات التي نخوضها بأنفسنا.
رحل جدّي، لكنه لو عاد، لربما قال:
“الحرب ليست فقط من يُطلق الرصاص… أحيانًا، الحرب هي من يجعلنا نطلق النار على بعضنا بالكلمات.”
نسيت أن أقول لك يا جدّي شيئًا مهمًّا، وربما هو الأخطر..
حربنا اليوم لا تكتفي بالقصف بالصواريخ والمسيرات، ولا تنتهي باتفاقيات.
إنها قاب قوسين أو أدنى من فناء نووي…
كل شيء قد يُحسم بلمسة زر.
ضغطة واحدة، ويصير كل ما على الأرض “باي باي”، كما نقول ساخرين.
تخيل يا جدّي: نهاية العالم… بجودة 4K!
بئس ما وصلنا إليه..
جدّي… نحن ننتظر فقط!!