
حديث بسمة/ عزيزة حلاق
قبل بضع سنوات، وتحديدًا في عام 2021، هزّت فضيحة “الجنس مقابل النقط” بعض الجامعات المغربية، كاشفةً عن اختلالات أخلاقية صادمة ومست بكينونة وحرمة المنظومة الجامعية. كان ذلك بمثابة ناقوس خطر دقّ بقوة، معلنًا أن الجامعة لم تعد بمنأى عن مظاهر الانحراف والتسيّب والفساد.
واليوم، ونحن في سنة 2025، نجد أنفسنا أمام فضيحة أكثر اتساعًا وخطورة، وهذه المرة انفجرت من جامعة ابن زهر بأكادير، و عرفت إعلاميا ب”ماستر قيليش”، تتعلق بـ”بيع الدبلومات وشهادات الماستر والدكتوراه”، ما أعاد إلى الواجهة سؤالًا جوهريًا ومقلقًا: ماذا يحدث داخل الجامعة المغربية؟
هل ما نشهده مجرد حالات معزولة أم مؤشرات على أزمة بنيوية عميقة تهدد مستقبل التعليم العالي في المغرب؟
سقوط الجامعة في زمن الرداءة
لطالما كانت الجامعة المغربية فضاءً خصبًا لصناعة النخب، ومشتلًا للترقي الاجتماعي. كانت الأسر تفخر بانتماء أبنائها لهذا الصرح العلمي، وكان الطلبة يعتزون بانخراطهم في الحياة الجامعية، ولا يترددون في ذكر أسماء أساتذتهم بكل تقدير واحترام.
غير أن هذه الصورة بدأت تتلاشى في السنوات الأخيرة، بعد أن فقدت الجامعة شيئًا فشيئًا من هيبتها الأدبية ومكانتها العلمية ووظيفتها النبيلة. فقد ساهمت التعيينات المشبوهة، وتغوّل المصالح الضيقة، وامتزاج الأكاديمي بالسياسي، وانتشار المحسوبية، وسيادة اللامحاسبة، في خلق مناخ مريض داخل عدد من المؤسسات الجامعية، حوّل الجامعة من فضاء للارتقاء بالمعرفة إلى ساحة لصراعات المصالح وممارسات بعيدة عن قيم العلم والبحث الرصين.
أما التحول الأخطر والأكثر إثارة للقلق، فيتمثل في “تسليع” المعرفة والشهادات. بعد أن أصبحت ديبلومات الماستر والدكتوراه، في بعض الحالات، سلعة تُعرض في سوق الفساد، تُمنح لمن يدفع أو يُحابى، بدل أن تُنتزع بالاجتهاد والكفاءة والاستحقاق.
هذا الانزياح الخطير لا يُهدد فقط نزاهة المنظومة الجامعية، بل بات يُقوّض مصداقية الجامعة المغربية داخليًا وخارجيًا، ويضرب في العمق جوهر العدالة التعليمية وتكافؤ الفرص. فحين تتحول الشهادات العليا إلى “امتيازات” قابلة للشراء، يفقد التعليم معناه، ويُقصى المجتهد لصالح من يملك النفوذ أو المال، ويُصاب المجتمع في ضميره المعرفي.
زبائن الأطروحات المكرحة…قنابل موقوتة في مؤسسات الدولة
الأخطر فيما يجري اليوم، ليس فقط وجود فساد في منح الشهادات، بل في هوية المستفيدين من هذا الفساد. فالأسماء التي تحصل على الماستر والدكتوراه والشهادات (المكرحة)، (المضروبة) دون استحقاق، كثير منها يتبوأ مناصب حساسة: في سلك القضاء، المحاماة، التعليم العالي، الإدارة، وحتى السياسة. ما يعني أن “تجارة الدبلومات” لا تفرّخ فقط جهلة بشهادات عليا، بل تُعيد إنتاج الرداءة داخل مؤسسات من المفترض أن تكون عماد دولة الحق والقانون.
فحين يصبح من يدين الناس قاضيًا بشهادة مزورة، ومن يدرّس أبناءنا أستاذًا بلا كفاءة، ومن يسنّ القوانين مشرّعًا بلا تكوين، فالأزمة لم تعد تربوية فقط، بل تحوّلت إلى تهديد مباشر لمصداقية الدولة وأمن المجتمع.
تسليع التعليم وتفكك القيم.. من المسؤول؟
المسؤولية فيما تعرفه الجامعة المغربية من انحدار ليست مسؤولية طرف واحد، بل هي مسؤولية جماعية، وإن تفاوتت درجاتها وأشكالها.
في الجوهر، لسنا بحاجة إلى نظريات المؤامرة لتفسير هذا التدهور. فغياب إرادة إصلاحية حقيقية، وتراكم الفشل المؤسسي، وتهميش البحث العلمي، وغياب ربط المسؤولية بالمحاسبة، كلها عوامل كفيلة وحدها بإنتاج منظومة مريضة تنهار تدريجيًا وتتآكل من الداخل.
ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن هناك من قد يجد مصلحة في هذا الانهيار. فبعض الجهات، سواء من داخل المنظومة أو من خارجها، قد ترى في إضعاف الجامعة وسيلة لتكريس واقع يمكن التحكم فيه بسهولة، وضرب ما تمثله الجامعة من أفق للارتقاء الاجتماعي والمعرفي، خاصة بالنسبة للفئات الفقيرة التي لا تملك سوى التعليم وسيلة للخروج من دائرة التهميش.
فإضعاف الجامعة ليس مجرد خلل إداري أو تربوي، بل هو مساس بمستقبل المجتمع نفسه، وبأحد أهم روافع التنمية والعدالة.
صرخة المهدي المنجرة: حين تُباع الشهادات وتُغتال الكفاءة
يصعب الحديث عن أزمة الجامعة المغربية اليوم، في زمن المفاهيم الجديدة والغريبة: الشناقة، والفراقشية، والقلالشية، دون استحضار صرخة المفكر الراحل المهدي المنجرة، الذي كرس حياته للتنبيه إلى مخاطر تهميش العلم والمعرفة.
آمن المنجرة بأن مستقبل الأمم لا يُبنى بالولاءات الضيقة، ولا بالريع أو التبعية، بل بـ”أدمغة متمكنة، حرة، وواعية”. وكان يعتبر أن الاستقلال الثقافي والعلمي هو الشرط الجوهري لأي نهضة مجتمعية حقيقية.
ولا شك أن ما نشهده اليوم من تسليع للشهادات، وابتذال للبحث العلمي، وفساد في منظومة التكوين العالي، هو نقيض تام لهذا التصور الحضاري. إنه تعبير عن فشل ممنهج في فهم دور الجامعة كرافعة للتحرر.
ولو كان المهدي المنجرة بيننا اليوم، لرفع صوته، كما فعل دائمًا، في وجه هذا التراجع، مطالبًا بثورة معرفية حقيقية تُعيد الاعتبار للجامعة، وتحرّرها من قبضة الزبونية والتدجين، وتمنحها مكانتها كفضاء لإنتاج الفكر، لا لتحطيمه…
لكن، وبصراحة مؤلمة، أخجل أن أستحضر اسم العالم الجليل المهدي المنجرة في زمنٍ بات فيه “الفراقشية” و “الشناقة”، يتحكمون في مفاصل الاقتصاد والسياسة، و”القلالشية” يحوّلون الشهادات الجامعية، إلى سلع تفاوضية في سوق سوداء..
أخجل أن أضع اسم المنجرة، بقامته ورؤيته ونزاهته، في سياق جامعة يُباع فيها الماستر والدكتوراه، وتُهان فيها الكفاءة، ويُكافأ فيها الفشل والرداءة.
أقولها بمرارة وامتنان في الآن ذاته، الحمد لله أن المهدي المنجرة رحل قبل أن يصطدم بزمن تحوّلت فيه الجامعة من منارة للفكر والعلم إلى سوق تُباع فيها المبادئ، وتُسوَّق الشهادات، وتُدهس الكفاءة تحت أقدام “القلالشية” و”الشناقة”.