إدغار موران… حكيم التعقيد ومقاوم التفاهة

حكيم التعقيد و زارع الأمل في زمن الاختزال

في عالم يميل أكثر فأكثر إلى التبسيط واختزال المعاني في شعارات سريعة، ينهض اسم إدغار موران كواحد من أبرز المفكرين الذين قاوموا هذا المسار. قبل ثلاث سنوات، احتفل الفيلسوف والمفكر الفرنسي المرموق ببلوغه مئة عام، دون أن تنطفئ جذوة حضوره في النقاشات الكبرى التي تشغل البشرية. ظل وفيًا لمهمته الأصيلة: إنقاذ الفكر الإنساني من السطحية، وتذكيرنا بأن فهم الحياة لا يتم عبر معادلات جاهزة، بل عبر الغوص في تعقيدها المتشابك.
من بين ركام الحروب، وصخب العولمة، وتحولات الإنسان الحديث، شق موران طريقًا فكريًا فريدًا، انتصر فيه لحقّ التعقيد، في زمنٍ يعلي من شأن السرعة والاستهلاك المعرفي السريع. لم يكن مفكرًا منعزلًا في برج عاجي، بل صانعًا لرؤية شاملة تسعى لربط الإنسان بذاته، وبمحيطه، وبالعالم من حوله.
الفكر المركب… مشروع عمر
وُلد إدغار موران سنة 1921 في باريس، وسط أسرة يهودية متوسطية الجذور. عاش تحولات القرن العشرين بكامل جوارحه: الحرب العالمية الثانية، المقاومة ضد النازية، الحرب الباردة، اجتياح العولمة، وصولًا إلى الثورة الرقمية. لكنه لم يكن مجرد شاهد على هذه التحولات، بل مفكرًا أنشأ أدوات لفهمها وتفكيكها.
بهذا الزخم الوجودي، انطلق مشروعه الفكري الأبرز: الفكر المركب. مشروع يدعو إلى تجاوز التفكير الخطي والمبسّط، نحو نمط من التفكير يحتضن التداخل، التناقض، والغموض. فالمعرفة في نظره لا تتقدم إلا بالوعي بحدودها، وكل ظاهرة ـ سواء كانت اجتماعية أو طبيعية ـ لا يمكن فهمها بشكل معزول، بل داخل شبكة معقدة من العلاقات.
كتب موران مؤكدًا:
“الفكر المركب لا يرفض الوضوح، بل يرفض التبسيط المُخلّ.”
وفي موسوعته الفكرية الكبرى “الطريقة”، وضع أسسًا معرفية جديدة تربط بين الأجزاء والكل، بين الفوضى والنظام، بين الفرد والمجتمع، مؤمنًا بأن الفهم الحقيقي لا يتحقق إلا باحتضان هذا التعقيد، لا إنكاره.
العلم والحكمة… رحلة واحدة
إدغار موران ليس فيلسوفًا منقطعًا عن هموم الواقع. بل انشغل طوال مسيرته بقضايا التعليم، البيئة، الهوية، والسياسة. ودافع عن إصلاح جذري في منظومة التربية، لا يكتفي بنقل المعارف، بل يعلّم الإنسان كيف يتعامل مع حدود المعرفة وأخطائها.
قال في هذا السياق:
“نحن بحاجة إلى تعليم يعلم الجهل كما يعلم المعرفة، يعلم الخطأ كما يعلم الحقيقة، ويعلم الشك كما يعلم اليقين.”
بهذا المعنى، حذّر موران من نوع جديد من الجهل، يهدد الإنسان المعاصر رغم وفرة المعلومات: جهل العلاقات، جهل الكل، جهل المعنى. وصرّح قائلًا:
“أسوأ أنواع الجهل هو الجهل الذي يعتقد أنه علم.”
احتضان التعقيد… مقاومة ضد الاختزال
من بين أعمدة فكر موران، تبرز دعوته إلى احتضان التعقيد، لا الخوف منه. إذ يرى أن الحياة، رغم فوضاها الظاهرة، تخضع لنظام داخلي غني بالاختلافات والروابط.
كتب:
“التعقيد ليس فوضى، بل هو نظام مليء بالترابطات.”
إن التعقيد، من وجهة نظره، ليس عبئًا على التفكير، بل طريقًا إلى نضج الرؤية وإبداع الحلول. وهو ما جعله يرفض السطحية بكل أشكالها، ويدافع عن فكر يتسع لتناقضات الإنسان وأسئلته الوجودية العميقة.
بين القلب والعقل
رفض إدغار موران الفصل بين العقل والعاطفة، أو بين العلم والفلسفة. إذ يرى أن التفكير الحقيقي لا يكتمل دون أن يشمل الخيال، والعاطفة، والشك، إلى جانب المنطق والبرهان.
قال مؤكدًا:
“التفكير العميق لا يفصل أبدًا بين القلب والعقل.”
ولذلك، لم يكن يرى في العلم نقيضًا للفلسفة، بل امتدادًا لها. فالفكر، كما يراه، لا يحيا إلا حين يبقى موصولًا بالحياة.
دروس من حكيم التعقيد
في عالم يتجه نحو أحكام سريعة واختزالات مريحة، يُذكرنا إدغار موران بأن مهمة الفكر الأصيل لا تكمن في تقديم أجوبة جاهزة، بل في فتح مساحات جديدة للفهم والتساؤل. فالتعقيد ليس ترفًا فكريًا، بل ضرورة لفهم هشاشتنا، وتعقيد إنسانيتنا، وتشابك وجودنا.
ربما لهذا، ظل يردد حتى وهو يطوي قرنًا من الحياة:
“لا تخف من التعقيد… فالحياة نفسها معجزة من التعقيد الرائع.”