انضموا لنا سيسعدنا تواجدكم معنا

انضمام
ثقافة وفنون

البوليفونية ومستويات اللغة في رواية “المغتصبة”

سيرة فاطمة المسارية لكاتبها "عبد العزيز العبدي"

بقلم:عبدالإله ستيتو أستاذ باحث في السرد

ا -Iلبوليفونية: Polyphonie

تمهيد:

البوليفونية polyphonie) : “مصطلح يعني تعدد الأصوات. استعير من الموسيقى حيث يدل على التناسق يين عدة أصوات أو ألحان مستقلة قي آن واحد. في الأدب، يشير إلى الرواية التي تتعدد فيها الشخصيات المتحاورة، وتتنوع وجهات النظر والرؤى الإيديولوجية، مما يخلق حوارا داخليا بين مختلف الأصوات دون هيمنة صوت واحد.”[1]

لقد تم توظيف المصطلح، أي التعدد الصوتي أو البوليفونية في مجال السرديات، توظيفا يسمح بإبراز مجموعة من الخصائص السردية كلما ارتبط بمسألة التلفظ. لذا نجد ميخائيل باختين،  قد اعتنى بشكل كبير بهذا المصطلح بديلا جوهريا في مقاربته للرواية البوليفونية المتعددة الأصوات مقارنة مع الرواية المونولوجية أحادية الصوت. وقد سمح هذا المفهوم بتوليد معان تنفي إطلاقية المعنى أو الرأي الذي ينسب إلى صوت واحد.

تعتبر الرواية بهذا المعنى الجنس أكثر شمولية وقابلية لاحتضان مختلف الرؤى، والمنظورات لموضوع ما أو تيمة معينة؛ وذلك بحكم تعدد شخصياتها وتنوع مراتبها الاجتماعية والثقافية. ويرى ميخائيل باختين أن دوستويفسكي Dostoiovski هو أول من جاء بهذا الشكل الروائي القائم على تعدد الأصوات، يقول: ” إن خصوصية دوستويفسكي لا تكمن في كونه أعلن مونولوجيا عن قيمة الشخصية بل في كونه استطاع أن يراها فنيا وموضوعيا وأن يعرضها أيضا بوصفها شخصية أخرى شخصية غيرية (تخص الغير) دون أن يسبغ عليها جوا من الغنائية ودون أن يمزج صوته معها.”[2]

تؤكد هذه الخصوصية  طبيعة الشخصية داخل الفهم البوليفوني من استقلالية، وتمتع بحرية في التعبير عن عوالمها الداخلية والموضوعية بكل حرية؛ بل يمكنها حتى أن تخالف السارد في توجهاته ومواقفه من الموضوعات المطروحة داخل الرواية. ليست هناك أي سلطة عليها لا من طرف الكاتب أو السارد، الشيء الذي يسمح للقارئ بتتبع آثار الشخصيات وتأويل وجهات النظر المختلفة والرؤى الإيديولوجية المتضاربة. إنه نوع من التمرد على سلطة الراوي الواحد والعالم بكل شيء، مما يتيح لها إمكانية التعبير عن مواقفها من زاوية منظورها الخاص وبأسلوب متفرد بها، ما يجعل من الرواية مسرحا لصراع الأفكار والإيديولوجيات تتجاذبها على قدم المساواة كل شخصيات العمل الروائي.

إن ما يميز الرواية المتعددة الأصوات هو غياب الوعي السردي الموحد الذي يمكن أن يشمل وعي كل شخصيات الروائية الذي يعتبر مستوى أرقى، يضطلع بخطاب المجموعة، ” إن الموقف الجديد للكاتب إزاء الشخصية في الرواية المتعددة الأصوات لدوستويفيسكي يكمن في الموقف الحواري الذي يحترم بصرامة، والذي يؤكد استقلالية الشخصية وحريتها الداخلية، ولا تناهيها وترددها. فليست الشخصية عند الكاتب (هو) ولا (أنا) وإنما هي (أنت) تام أي (أنا) آخر غريب عديل له.”[3]

الملاحظ أن الشخصية في الرواية البوليفونية أصبحت لها قيمة وكينونة مستقلة، وليست مجرد شخصيات ورقية تنجز ما يملى عليها، بل أصبحت صوتا مسموعا وفاعلة، وحاملة لوعي، يقول باختين: ” ليس كثرة الشخصيات والمصائر داخل العالم الموضوعي الواحد، وفي ضوء وعي موحد عند المؤلف هو ما يجري تطويره في أعمال دوستويفيسكي، بل تعدد أشكال الوعي المتساوية الحقوق مع ما لها من عوالم، هو ما يجري الجمع بينه هنا بالضيط.”[4]

على هذا الأساس فإننا ننظر إلى الشخصية باعتبارها تحمل وعيا ذاتيا وإيديولوجيا:” إننا نرى أمامنا لا الشخص الذي هو عليه، بل الكيفية التي يعي بها ذاته.”[5]

بناء عليه، لا يمكن فصل الشخصية عن وعيها، وكذلك عليها أن تكون حاملة لإيديولوجية مجددة. هذه الأفكار، هي التي تمنح للبطل معنى الحياة الحقيقية بإصراره على إيجاد حلول لأفكاره، وإن تم تجريده من أفكاره التي يحيى بها، فإن صورته ستنهار، لذا يرى باختين أن ” صورة البطل ترتبط ارتباطا محكما بصورة الفكرة، ولا يمكن فصلها عنه، إننا نرى البطل في الفكرة ومن خلالها، ونرى الفكرة في البطل ومن خلاله.”[6]فالشخصية عند باختين هي شخصية غير منجزة. متطورة على طول النص، تفاعلية، تواصلية مع نفسها ومع الآخرين، تفتح المجال الرحب للتأويل عبر القراءات المتعددة للقارئ في تحديد نموذجها وطبيعة وعيها.

يظهر جليا من خلال القراءة، حضور هذا النوع من الأصوات أو الشخصيات المشكلة للمتن الروائي. كلها شخصيات متطورة غير منجزة، تفاعلية، تواصلية مع نفسها ومع الآخرين. تفتح المجال للتأويل عبر القراءات المتعددة للقارئ في تحديد نموذجها وطبيعة وعيها. فما طبيعة الشخصية داخل الفهم البوليفوني؟

II – تعدد الشخصية واستقلاليتها سمة البوليفونية.

تعتبر رواية المغتصبة من وجهة نظري رواية بوليفونية بامتياز، لأنها طرحت موضوع الاغتصاب والقتل بوصفهما واقعة حقيقية بحبكة سردية تداخل فيها الواقعي بالتخييلي، وبتشابك الشخصيات مع بعضها وتصارعها قصد استمالة القارئ سواء بالتعاطف أو بالعتاب لما آلت إليه أحوالهم بعد دخول عشبة الكيف والمتاجرة فيها، مما أسهم في تغيير معالم نمط العيش وتشويه القيم الأخلاقية التي كانت تنعم بها بلدة زومي الواقعة قرب مدينة وزان.

وقد تناوب على السرد مجموعة من الشخصيات، خمس شخصيات رئيسية وهم على الشكل التالي: فاطمة / عبدالرحمن/ أيوب/ جميلة/ لاجودان. وشخصيات ثانوية وهم: عباس/ يونس/ ياسبن/ عائشة/ كريم/ تم شخصبة الراوي بضمير الغائب، حيث  أسهم هذا التعدد في تثبيت جمالية النص الأدبي وسمح للقارئ بعملية التأويل لفك مغالق النص وتتبع الشخصيات لفهم أهوائها وتحولاتها، خصوصا أنها كانت تمتلك الجرأة في التعبير عن ذاتها بكل حرية بمعزل عن خالقها، حيث اتسمت كل شخصية بصوتها عاكسة خلفيتها الثقافية والاجتماعية. ورغم هذه الاستقلالية والتنوع في الصوت فالنص حافظ على وحدته الموضوعية أي الرسالة التي حاول إيصالها، وهي محاولة إعادة قراءة واقعة القتل والاغتصاب باعتبار الرواية أداة للتحليل والتفكيك وإعادة القراءة من أجل استشراف المستقبل.

هكذا يمكن تصنيف الشخصيات في الرواية إلى صوتين أو محورين: محور القيم النبيلة، ومحور قيم الشر.

صوت القيم النبيلة: يتمركز في هذا المحور مجموعة من الأصوات يعزفون على نغمة النبل والعفاف والسلم والأمان والكرامة تتقدمهم فاطمة.

صوت فاطمة: شخصية محورية في صناعة الأحداث الروائية، ابنة الدوار، تنتمي لوسط فقير. أبوها إسكافي لم ينخرط في زراعة الكيف وترويجها. كانت في مقتبل العمر. تعيش في سلم وأمان كبقية بنات الدوار، تذهب لجلب الماء من البئر وترعى نعاجها في المروج المجاورة. إلا أنها وبدون سابق إنذار، وجدت نفسها في أحد الأيام محرومة من ممارسة أنشطتها المعتادة بقرار من والدها بشكل قطعي دون أن يترك هامش الجدل قي الموضوع أو يشرح دوافع هذا المنع بعدما أخبر والدتها بالقول” فاطمة ما تبقاش تخرج تسرح. خلي جمال يدير هاد الخدمة.””[7]

إن هذا المنع الذي لم تفهم فاطمة علته، كان بمثابه حماية لشبابها وعفتها، بعدما لاحظ الأب تربص عبدالرحمان بأنوثتها التي بدأت قي الينعان. أراد أن يحسم الأمر بشكل سلمي قبل أن يقع ما لا يحمد عقباه. في سياق هذا المنع سنكتشف توترات شخصية فاطمة وتحولاتها النفسية، من إحساس بالظلم والحرمان إلى الشعور بالزهو في المرحلة الانتقالية التي تمر منها، خاصة بعد زيارة جارتهم عائشة أم أيوب لوالدتها مخاطبة إياها بالقول وهي مبتسمة في وجهها باندهاش قائلة لها:” كبرتي العايلة وليتي عروس”[8] وهي في المطبخ تعد الشاي، التقطت حوارا بين عائشة وأمها، مفاده أنها تريد فاطمة زوجة لابنها أيوب. هذا الحوار أحسسها بطبيعة المرحلة الانتقالية التي تمر منها. أنوثة أينعت وحلم تبتغيه كل فتاة، خاصة لما سمعت اسم أيوب، الذي لم يكن اسما عابرا، وإنما أيقظ مشاعرها بفكرة الرجل. سيخلد في ذاكرتها ووجدانها، وستمتلئ بطيفه حتى الإدمان. من يكون إذن أيوب.

صوت أيوب: أيوب ابن عائشة، يتيم الأب، يعتبر شخصية مركزية في بناء أحداث الرواية. يطلعنا بدوره أثناء مشاركته في السرد عن مسار حياته وحالاته النفسية. يخبرنا أنه لم يستطع إكمال دراسته الابتدائية، الشيء الذي دفع أمه إلى الذهاب به عند لمعلم عبدالوهاب، خياط الدوار ليتعلم صنعة الخياطة درءا لنوائب الدهر. بعد مرور الوقت، استطاع أن يثبت جدارته في حرفة الخياطة بالترام وانتظام، إلى درجة توصيفه من طرف معلمه بالمعلم أيوب، مكافئا إياه ببعض الدريهمات حيث قال له:” هاك المعلم أيوب، الله يعطيك الصحة اليوم.”[9]

سيكون هذا الاعتراف، وهذا الثناء أول بداياته في الارتقاء بالحرفة والاجتهاد فيها. داع صيته في الدوار والدواوير المجاورة. قصدته كل النساء بمختلف مشاربهن وأحجامهن ليخيط لهن، إلا فاطمة التي لم تكن تسمح لها الظروف المادية بخياطة الأثواب. ومع ذلك سكنت جزءا من مخيلته، بدليل أنه كلما أقدمت عنده امرأة لأخذ قياساتها، إلا ويستحضر طيفها. لم يدرك كيف سكنته ومتى نمى هذا الحب بين ثنايا تفكيره، وما طبيعة هذا الشوق اتجاهها؟ كل ما يدريه ويشعر به أنها الحلم الذي يهرب إليه في وحدته، ويمني النفس بها زوجة له. لكن هاجس الخوف من رفضه سيطر عليه، وترك الأمر دفينا بين ذاكرته ومشاعره، يستحضرها كلما حن واشتاق إليها.

شاءت الأقدار أن يفارق الأب الروحي، لمعلم عبدالوهاب الحياة، الذي كان سندا له في التسلق في مراتب الحياة الاجتماعية. وبقدر ما كان الموت انتكاسة في لحظتها، شكل نقطة فارقة في حياته. إذ سيطاوع طلب لمعلم ياسين أخو عبد الوهاب لاصطحابه إلى مدينة الدار البيضاء للعمل في ورشة الخياطة التي يديرها هناك، تاركا وراءه شيئا من الدوار، تحديدا طيف فاطمة وصورتها التي سكنت قلبه وذاكرته منذ النظرة الأولى عند العين وهي تجلب الماء.

في ورشة لمعلم ياسين تمتع بأجرة شهرية محترمة، إضافة إلى الإكراميات عربونا على تفانيه وانضباطه في العمل. ومع تحسن أحواله المادية، ارتأى لمعلم ياسين أن يطرح عليه فكرة الزواج ليضمن استقراره وعطاءه للورشة. موضوع الزواج هز مشاعر الشوق والحنين إلى الدوار وأهله، خاصة أمه، وحلمه المؤجل. مع اقتراب عيد الأضحى فاجأه لمعلم ياسين بقوله:” سأصحبك معي إلى زومي الأسبوع المقبل لقضاء عطلة عيد الأضحى، سأتكفل بأضحيتك أنت ووالدتك، وسأحسم معها أمر زواجك.” [10]

مع توالي السرد، وحفاظا على الحبكة السردية، استطاع الكاتب أن ينتقل بين الأصوات بشكل سلس دون أن يحدث فجوة، أو تشويشا للقارئ، مما ساعدنا كقراء من متابعة القصة من منظور مختلف. هذا ما لمسناه في الفقرة الخامسة عسر، حينما بدأ الكلام بفاصل زمني عنونه ب” اقترب عيد الأضخى”. حضر السرد بضمير الغائب يوصفه تقنية السرد المتعدد المنظورات. شارك الجميع دفعة واحدة عمال الورشة، لمعلم ياسين، أيوب والزبونة مدللة الورشة “لالة غيتة” التي تضاربت الأقوال حول هويتها، إلا أنها تبقى عربون كرم وسخاء، حيث ناولت أيوب ظرفا ماليا نظير رضاها على عمله وسرعة أدائه في خياطة الأثواب، مخاطبة إياه:” هذا عربون، نهار تزوج العرس ديالك على حسابي.” [11]

مرة أخرى يثار موضوع الزواج، وهو ما يتمناه بدوره، لكن بمن؟ وهو المتيم بحب فاطمة حتى الإشباع، هل ستكون من نصيبه وتقبل به عريسا؟ هذا ما سنكتشفه مع توالي الأحداث.

زغرودة الفرح أطلقتها عائشة كسرت بها سديم الليل وطول الانتظار. مبددة هواجس القلق، معلنة قدوم ابنها أيوب، لدرجة أن صداها عم المكان لتتيقن فاطمة أن أيوب وصل. بالفعل في تلك اللحظة كان واقفا أمام باب المنزل برفقته لمعلم ياسين وزوجته، وذلك قبل آذان العشاء بقليل. اعتذر ياسين وزوجته عن الدخول إلى المنزل، وبكلام لا يخلو من الدعابة وعد أم أيوب بزيارتها لاحقا حيث قال: ” أيوب غزال، …، غير هو خاصك تزوجيه.”[12]

سيرفع هذا الشاهد الحرج عن أم أيوب، أخذته على محمل الجد. جعلت منه فرصة لمفاتحة ابنها أيوب، وهي تعد وجبة العشاء أكدت لابنها بالقول الصريح: ” المعلم ياسين عندو الحق، خاصك تزوج.”[13]

فاجأته في لحظتها بذكر اسمها، حلمه الدفين والمشتهى، فاطمة ابنة ادريس الإسكافي. كيف له أن يعرض عن هذا الاسم وهو كله أمل وآمال في تحقيق حلمه. تكلفت أمه بكل التفاصيل، وبتنسيق مع أم فاطمة حددت موعد الخطوبة للحديث عن إجراءات الزواج. كيف لا تأخذ المبادرة وهي عنصر أساس في الدوار يقصدها كل الأهالي، وتقدم يد المساعدة للجميع، سواء في المآتم أو الأفراح. لا يستقيم فرح إلا بحضورها.

زغرودة طويلة أمام باب منزل فاطمة، عنوان فرح قادم، وتبديد الشك وقطع حبل الانتظار، إعلانا بحضور أهل العريس. لمعلم ياسين وزوجته، والخالة عائشة وابنها أيوب. دخلوا المنزل. نادت الخالة عائشة على فاطمة، وهي تخطو نحوها بارتباك، ضمتها إلى صدرها وخاطبت ابنها أيوب بقولها:” هذه بنتي أنا، والله القران ديال باباك وغيرتها؛ لا انت بني ولا أنا كنعرفك.”[14]

مرت أجواء الخطوبة في جو يسوده الفرح والتفاهم حول تفاصيل المهر وما يرافقه، وتفاصيل العرس ومستلزماته، كما كان اقتراح أيوب بلسما على مستقبل حياتهم الزوجية بتأكيده على بناء منزل مستقل عن والدته يضمن لهما حميمية العيش وخصوصيته.

تحقق الحلم على أرض الواقع من كلا الطرفين. أيوب زوج فاطمة. داع صيته في أرجاء الدوار، وكان العرس لا يقل بدخا عن باقي الأعراس التي عرفها الدوار حينما جرت السيولة المادية بين أيدي المتاجرين في عشبة الكيف. إنه الوعد الذي قطعه على نفسه لمعلم ياسين بالتكلف بكل مصاريف العرس. واكبه ليوميين متتاليين، لم يترك أي تفصيل أن يسقط ولو كان بسيطا إلى أن أوصلهما إلى النزل لإتمام ليلة الدخلة. في سياق فرحتهما قررا السفر إلى مدن مختلفة. مدد عطلته ليتمتعا بطعم الزواج، وانصهار الذوات بعد هذا الانتظار الطويل. عند عودتهما إلى زومي سيعلم أيوب أن فاطمة حامل، الشيء الذي دفعه إلى تمديد عطلته مرة أخرى ليرتب مستلزمات الحمل من عيادة الطبيب وأشياء أخرى، إلى أن حان موعد الالتحاق بالعمل. كم كان الموعد ثقيلا على قلبه، حيث سيترك وراءه أحبته، أمه، فاطمة وجزء من روحه.

مقابل هذا الفرح الأسطوري. كان هناك في الدوار من كان له رأي آخر. لم يستسغ هذا الزواج وهذه الفرحة لشابين لم يعرف قلبهما غير الفرح والسلام. لذا سنجد شخصيات في الرواية على طرف النقيض، تحمل كرها وغيضا دفينا لهما، لا لشيء إلا لكونهما يعزفان ألحانا مغايرة لألحانهم، تحمل في طياتها قيما أصيلة لتقاليد وأعراف الدوار؛ ولم يتأثرا بالقيم الدخيلة الذي وسم بها الدوار بعد أن سال المال بكثرة في أيدي الشباب يفعل ممارسة زراعة الكيف والاتجار في أنواعه المصنعة.

سيدفعنا السرد للكشف عن هذه الشخصيات ومساراتها الفنية ومدى مساهمتها في الحبكة السردية والبناء الروائي بشكل عام. بداية سنتناول شخصية عبدالرحمان. إذن من هو عبدالرحمان؟ وما هي أدواره في المتن الروائي؟

صوت عبدالرحمان: شخصية فاعلة في الرواية، ساهم في بنائها في أكثر من فقرة؛ أثناء تناوله الكلام، سنتعرف عليه بوصفه ابن الدوار، مر بتجربة مريرة، لا لشيء يذكر اللهم زراعته لشتلتين من الكيف بعد وشاية من شيخ الدوار. فبرك له محضر، وحكم بشهرين نافذة. هناك سيلتقي مع عباس ابن الدوار المعروف بتعاطيه لتجارة المخدرات. بخبرته السجنية مد له يد المساعدة لنسج ألفة مع المكان الغريب عنه. ستتوطد العلاقة بينهما حتى تصبح شراكة قائمة الأركان للمتاجرة في المخدرات.

بعد خروجه من السجن، اتفق مع عباس في زراعة أرض بعيدة عن الأنظار بنبتة الكيف. تكلف كل واحد بمهمة. وبسرية تامة تابعا أطوار نمو العشبة، إلى أن حان موعد الحصاد، وجمعا المحصول. تمكن عباس بعلاقاته وخبرته في بيع المحصول واقتسم عائداته المادية بالنصف. فوجئ عبدالرحمن بكرم عباس وبالمبلغ الكبير الذي تحصل عليه، حيث لم يكن يحلم يوما بهذا المبلغ الضخم. مغامرة محفوفة بالمخاطر إلا أنها فتحت بابا جديدا لعبد الرحمن في تغيير أحواله المادية. يخبرنا شريكه عباس في إحدى الفقرات، أنه عندما ناوله الكيس البلاستيكي المملوء بالنقود رأى فرحا طفوليا على محياه. يقول في هذا الصدد: ” عانق الكيس البلاستيكي الأسود الذي يحوي المال، ثم أجهش بالبكاء. بدا وكأنه اكتشف فجأة أنه تخلص من سنوات الحرمان والحاجة. وأنه على أبواب مرحلة جديدة في حياته.”[15]

يحيلنا هذا الشاهد بالفعل على تطورات مهمة في شخصية عبد الرحمن الاجتماعية لدرجة أن سكان الدوار انتبهوا لهذا التغيير المفاجئ في حياته، بدءا بلباسه الأنيق والإصلاحات التي قام بها في المنزل. في ظل هذا التحول راوده حلمه الميال إلى فاطمة؛ حيث فكر في اقتناء سلسلة ذهبية وتقديمها هدية لها مقابل أن تكون العايلة ديالو. ومن دون مقدمات اعترض سبيلها في أحد الأيام وهي عائدة من العين. أوقفها وقدم لها السلسلة الذهبية مخاطبا إياها بلغة تخلو من الآداب قائلا: ” العايلة، أنا بغيتك تكوني ديالي.”[16]

سيكون هذا القول مفصليا في تطور أحداث الحكاية وتطورها نحو بناء معقد، وستكون له عواقب وخيمة على أحوال الشخصيات المعنية به؛ بحيث رفضت أن تكون العايلة بالمفهوم الذي ذاع بين شباب الدوار الذي اتجه إلى منحى مغاير لما تقتضيه الأعراف والقيم المتعارف عليها. أصبح لكل شاب عشيقته، وتباهين الفتيات بهذا السلوك. إنها لعنة المال السائل الذي أفسد كل القيم؛ واستنبتت في المقابل ثقافة وافدة غريبة عن أهل الدوار؛ وغاص الجميع في قاع المبيقات والمآتم، إلا من رحم. شكلت فاطمة استثناءا بهذا الرفض، لكونها لا زالت تحافظ على أصالتها وقيمها النبيلة، ولم تؤمن بهذه الثقافة الجديدة، ومن جهة أخرى تجد نفسها مرتبطة وجدانيا بأيوب في حشمة وعزة نفس. تعيش على أمل تحقيق حلمها من أيوب.

ذاع خبر رفض فاطمة لعبدالرحمن في الدوار كالنار في الهشيم. نسجت أقاويل كثيرة حول الموضوع، مما سبب جرحا غائرا لعبد الرحمن، ودفعه إلى عزلة وتغير في أحواله النفسية، سمته الحزن والشرود واللوذ بالصمت. رغم المحاولات المتكررة سواء من عباس أو أيوب ابن رئيس الجماعة شريكهما الثالث في تجارة المخدرات للتنفيس عليه وإخراجه من حالته النفسية المتدهورة، إلا أنهما لم يفلحا، ولم يستطيعا إليه سبيلا. تاه في السكر والعربدة وتدخين الحشيش، حتى ظن الجميع أنه التجأ لهذا الأسلوب لنسيان فاطمة فقط؛ لكن حقيقة الأمر كانت مغايرة لهذا الاستنتاج، بدليل حواره الداخلي الذي يقر فيه بقوله:” يعتقدون أنني أدخن الحشيش وأعاقر الخمرة لنسيانها، والحقيقة أفعل ذلك لاستحضار طيفها الجميل ومداعبته في مخيلتي.” [17]

يقال من الحب ما قتل أو قد يؤدي إلى الجنون؛ تداعيات هذه الجملة المسكوكة سترخي ظلالها في تنامي الحكي وتعقيد الحبكة السردية، خاصة مع عبدالرحمن أثناء حواره الداخلي اللائم لنفسه على الطريقة التي تعامل بها مع فاطمة الممتنعة عن سلوك (العايلات) الذي ساد بين فتيات الدوار. تراءت له ذاته قادرة ما يكفي لتتحمل مسؤولية فتح بيت الزوجية، وأن لا شيء يعيبها، وأنه بوصفه رجلا له من مستلزمات الحياة المادية ما يجعل منه رجلا تتمناه كل فتاة؛ خصوصا أن شراكته مع عباس ويونس ابن رئيس الجماعة وعلاقته مع السلطة في شخص لاجودان بوأته مكانة مرموقة ضمن علية القوم. لم إذن هذا الرفض.؟

في سياق الكشف عن أصوات الشخصيات المشكلة للرواية، ننتقل إلى مقاربة صوت أنثوي آخر، هو على طرف النقيض من صوت فاطمة؛ ويشكل ثقافة وافدة مغايرة لما هو متعارف عليه في الدوار. صوت قادم من الخارج، من مدينة القنيطرة، حمل معه آلامه وجراحاته عله يجد في المكان الجديد ما يضمد جراحه ويثبت وجوده باعتباره إنسانا يطمح إلى العيش بكل استقلالية وحرية. إلا أنه تجرع مرارة العيش وسط وحوش آدمية. من يكون هذا الصوت؟ إنها شخصية بارزة في أحداث الرواية، قدمت إلى زومي مع كريم وهي تحمل معها حكاية ستقصها من باب دمقرطة الحكي، أسلوبا تبناه الكاتب في تنويع طرائق القول.

صوت جميلة: يخبرنا السرد أن جميلة التي تحمل من الجمال إلا الاسم. فتاة في مقتبل العمر طردها أبوها بعدما تزوج مباشرة عند وفاة والدتها. حملت حقيبتها البئيسة وما توفر لها من مال على علاته وقصدت الشارع. استأجرت في البداية غرفة في فندق رخيص، لضمان استمرار عيشها اشتغلت نادلة في أحد المقاهي القريبة من الفندق. ستتعرف هناك على كريم الذي كان منزويا في ركن المقهى، يبدو من ملامحه أنه يحمل آلام العالم، ولكونه يشبهها في آلامه، نسجت بينهما ألفة، لدرجة أنه في أحد الليالي بعد انتهاء مداومتها استدعاها لتناول وجبة خفيفة ومرافقته قائلا: ” آش بان ليك أجميلة نشركو الطعام؟ عندي ساندويتشات في هاد الميكة، إذا قبلتي علي مرحبا بك.” [18]

قبلت الدعوة بدون تردد، لكونها تعيش فراغا مقيتا ورافقته إلى شقته. بوعي منها، وتمردا على واقعها قدمت له تلك الليلة كل ما تعتز به كل أنثى، دون حواجز التقاليد والأعراف أو ما يصطلح عليه حشومة وعيب. وهو ما عبرت عنه بقولها: ” افتض بكارتي، وكان ذلك برغبتي وإرادتي.” وتضيف معللة على الفعل” لم يكن كريم فارس أحلامي، ولم يكن حتى رجلا أستطيع الاتكاء عليه، لكن كان يشبهني، مكسورا يبحث عن طريقة للهرب من ظله الثقيل.” [19]

ستحمل هذه الواقعة جميلة إلى عالم آخر. عالم لا يعير أي اهتمام للقيم والأعراف. إنه عالم احتراف الدعارة خصوصا أنها لم يبق لديها ما تخسر، خسرت مسبقا حضن العائلة في شخص أبيها، ثم بكرتها وخسرت كريم بنذالته الذي لم يستطع حمايتها لما رافقته إلى زومي، حيث يكتري شقة مع مجموعة من الشباب الوافد إلى الدوار المشتغل في ورشات الحشيش. تحرشوا بها ولم يبد كريم أي مقاومة تجاه فعلتهم؛ والأدهى من ذلك، حينما طلب منه أحدهم مضاجعتها، أجابه ببرودة دم: ” مالها مرتي أو اختي؟ منك ليها.” [20]

أمام هذه النازلة، قررت أن تكتري منزلا وتمارس مهنتها بمقابل مادي يعود عليها بالنفع. كانت أول تجربة مع كهربائي استدعته لإصلاح المقابس الكهربائية الذي سقط في لعبة الغواية بالجسد؛ وبدل أن تدفع له مقابل الإصلاحات، طالبته بأجرتها نظير المتعة التي حصل عليا. إنها بداية الإعلان عن مهنتها الجديدة وبتوصيف الإسفال الجسدي تعلن عن نفسها( قحبة)  دوار زومي. داع صيتها بين شباب الدوار. الوافدون منهم وأبناء المنطقة. نظمت مواعيد للراغبين في المتعة الجنسية مقابل مبالغ مالية تحدد سلفا حسب طبيعة العملية. لم تستثني أحدا من عرضها. يونس ابن رئيس الجماعة بدوره طلب خدمتها وكانت بعيدة عن الأعين، حيث كان اللقاء في مدينة وزان وأغدق عليها بسخاء. كما رتب لعبدالرحمن لقاء ماجنا معها بغية التنفيس عنه ونسيان ألم فاطمة. لكن المحاولة فشلت في ترميم جراحاته رغم المحاولات المتكررة بدليل أنه لما قضى وطره باح لها بقوله:” أنت إنسانة جميلة، مثل اسمك. أقدر ما فعلت من أجلي، وأقدر ما فعله يونس أيضا. مشكلتي أنكما لم تفهما عمق المشكلة. المشكلة أعمق من الجسد، إنه الجرح، الألم.”[21]

نستنتج من خلال هذا التقدير الناتج عن تعاطف جميلة مع عبدالرحمن، أن مشكلته تفوق النزوات الجنسية العابرة التي تمنحها جميلة. أحست آنذاك بدونيتها في مقابل عزة النفس وكرامة فاطمة. غبطتها في كسر كبرياء رجل، والتي لم تتح لها فرصة بلوغ هذه الدرجة. هذا الشعور سيساهم في تأزيم الحبكة السردية وسيدفعنا لتتبع أطوار الحكاية وأدوار جميلة في نسج خيوطها؛ بعدما علمت في إحدى الجلسات الخمرية أن عباس بدوره يريد أن ينال من شهوته منها. ومما زاد في الطين بلة، واستزاد من حقدها على فاطمة، هو اعتراف لاجودان في تحقيق أمنيته مضاجعة فاطمة كما يفعل مع باقي نساء الدوار بابتزازهن حينما يكون أزواجهن متورطين في قضية الاتجار بالمخدرات. وبعد فشله في توريط أبيها في قضية من هذا النوع، طلب منها مساعدته في ذلك؛ ما ترك استغرابا لدى جميلة بقولها:”  ياه حتى أنت يا لاجودان” [22]

تحيلنا هته الشخصية بدورها إلى صوت آخر ساهمت بشكل فعال في تغيير مسارات السرد.

صوت لاجودان:  يمثل صوت لاجودان في الرواية، صوت السلطة الفاسدة، التي لا يعلو فوقها صوت. إنه الآمر والناهي. القاضي والجلاد في نفس الوقت. إنه المخزن بمفهومه العام. يصف نفسه بقوله: ” لا شيء يعلو على كلمة المخزن، والمخزن في دوار زومي هو أنا.” [23]

منح لنفسه توصيفا صنع منه شخصا نافذا في الدوار، بعدما وقع توافق وتفاهم بينه وبين قائد المنطقة الذي طلب منه التعاون في إدارة شؤون الدوار قائلا: ” أجي نخدمو بجوج، ما ضرني ما نضرك.(…) أنا منكتب عليك وأنت متكتب علي.” [24]

هذا العرض كان فرصة للاجودان في بسط سيطرته وتضخم أناه، أصبح ممسوسا بداء الفساد. عبث بمصائر الناس وشرفهم خصوصا أولئك الذين يتاجرون في نبتة الكيف ومشتقاتها؛ لدرجة أنه تطاول على زوجات الفارين والمعتقلين على خلفية المتاجرة في الممنوعات. ضاجعهن مقابل تقديم خدمة بسيطة لأزواجهن. اغتنى بالمال السائل الذي وفرته عشبة الكيف. كان يتوصل بنصيبه عن كل عملية بيع المحصول وترويجه، وفرض إتاوات. أضف أنه كان يستفيد من محاصيل الزيت والزيتون.

هكذا أصبح أخطبوطا في الدوار بجمعه بين السلطة بتحالفاته مع القائد ورئيس الجماعة وبين المال. وصلت به شهوته المجنونة أن يتطاول على فاطمة لينال من شرفها بتلفيق تهمة لأبيها المسالم، والبعيد عن شبهة الاتجار بالمخدرات لابتزازها. إلا أن شرفه وشهامته استلاه من التهمة الكيدية كما تستل الشعرة من العجين، وذلك بإيعاز من بعض أبناء الدوار وعلى رأسهم عائشة أم أيوب التي حشدت الحشود وتمت تبرئته، وأطلق سراحه نكاية في لاجودان. ثارت ثائرته على إثر فشله في النيل منها. أصبح شغله الشاغل أن ينال منها حصة جنسية. الأمر الذي استدعى منه أن يخطط لمجموعة من الخطط، إلا أنه كان يخاف من فشلها ومن عواقبها الوخيمة. في سياق هذه الخطط يعترف ويبوح: ” لا تفارق صورتها ذهني، وكلما وضعت خطة للإيقاع بها، أتراجع عنها، إذ في كل خطة تتبدى لي هفواتها، وأخشى من فشلها.”[25]

أمام هذا التخبط في إيجاد خطة محكمة لتركيعها وكسر أنفتها، طلب من جميلة وبلغة آمرة أن تجد له حلا للوصول إلى مبتغاه قائلا: تكلفي بهذيك القحبة ديال فاطمة.[26]

تابع كلامه بشكل سلطوي: ” شغلك هذاك، بغيت نحطمها، بغيتها تجي هي وراجلها يركعو لي تحت رجلي.”[27]

تسلط لاجودان كان بمثابة الضوء الأخضر لجميلة في رد الصاع ونسج خيوط المؤامرة للإيقاع بفاطمة، لكونها تحمل ضغينة تجاهها وتشعر بالدونية مقارنة معها خصوصا أنها تم تجاهلها ولم يتم استدعاؤها للعرس رغم جوارها بمنزل فاطمة. هكذا التقت هواجسها البئيسة بهواجس لاجودان المتغطرسة في الانتقام منها وكسرها. وقع الاختيار على آلية لتنفيذ المشروع، فكان عبدالرحمن بوصفه شخصية مرفوضة ومهزومة، تحمل ندوبا لا تندمل من فرط  حبه الأحادي دون رجع الصدى. فاتحته في موضوع الاعتداء عليها والنيل من شرفها غصبا عنها، انتقاما لشخصه وإذلالا لكبريائها. وانفرط عقد الكراهية من تحت أيدي جميلة.

نستنتج أن الوصفة تمت في مطبخ جميلة، منزل اللعنة التي حلت بالدوار بدون اتفاق أهله المحافظين المرتبطين بالتقاليد والقيم، كما أن لعنة المال والثقافة السائلة التي تم استيرادها غيرت ملامح الدوار وأصالته، وكانت مصدر المصائب التي حلت وانغرست دون أن يضرب لها أي حساب.

تأسيسا على ما سبق، وفي إطار تنامي الحبكة السردية، يصلنا خبر فاجعة وقعت في الدوار من خلال التقرير المذيل باسم لاجودان إلى القيادة العليا: مفاده، اندلاع النيران في منزل عائشة، وتم العثور على جثة محترقة، بعث بها إلى مركز الطبيب الشرعي. كما يفيد كذلك أنه تم فتح بحث قضائي لتحديد أسباب النازلة.

بعد يومين أفاد التقرير الطبي أن الجثة تعود لأنثى بالغة من العمر عشرون سنة تم التعرف عليها باسم فاطمة، وأنها كانت حامل في أسبوعها الخامس. كما أكد التقرير أنها تعرضت لمحاولة اغتصاب.

جرى التحقيق على يد لاجودان الذي كلف شيخ الدوار بالتحري وجمع الروايات المتداولة بين الألسن؛ إلا أن الأسماء التي تحيط بها شبهة الجريمة، كلها شخصيات مقربة من لاجودان وتجمعه معها مصالح مشتركة، الأمر الذي دفعه في البحث عن ضحية لإلباسه التهمة من أجل استثبات الأمن، ونفس المطلب طالب به رئيس الجماعة بعدما ناوله كيسا بلاستيكيا مليئا بالأوراق النقدية قائلا له: ” سي لاجودان، طفي علي هاد العافية، الانتخابات قريبة وما خصنا صداع.”[28]

بناء على هذا الطلب، وبإيعاز من جميلة مرة أخرى، وقع الاختيار على كريم الحلقة الضعيفة في مجموعة الشر، فبرك له ملف جرمي، واقتيد إلى مدينة القنيطرة ليمتثل أمام وكيل الملك، ورغم إصراره على براءته من المنسوب له، حوكم بثماني سنوات سجنا نافذة نظير اقترافه جريمة القتل مع الاغتصاب.

خلاصة المحور الأول:

يتبدى أن الكاتب اعتمد تعدد الأصوات طريقة للقول في بناء الرواية، وترك للشخصيات حرية الحكي للتعبير عن مكنوناتها، وعرض وجهات نظرها في الفعل الروائي وما رافقها من مشاعر نفسية وتوترات وردود أفعال على نفس الأحداث بريط محكم بين الأصوات، بحيث تدعم كل شخصية الأخرى وتؤثر فيها رغم صراعاتها الداخلية التي كانت بمثابة لبنة أساسية في أفق تطوير الحبكة السردية. هذه العملية ساهمت بشكل جلي في تحديد الهوية السردية لكل شخصية بصوت مميز عكس خلفيتها الاجتماعية والثقافية. وهذا الاستنتاج يؤكده رائز القراءة للعملية الإحصائية لتعدد الأصوات، إذ نلمس توازن بين الأصوات الرئيسية المؤثثة لفضاء السرد داخل الرواية بشكل ديموقراطي. فحصة التناوب على السرد لكل من عبد الرحمن، أيوب وجميلة باعتبارهم سراد مركزيين كانت ستة فقرات وإن جاز لنا مجازا تسميتها بالفصول، كما أن فاطمة تربعت على مقالد السرد بسبعة فصول، أما حصة السرد للاجودان فكانت خمسة فصول، بالإضافة إلى بعض الأصوات الثانوية التي أخذت نصيبها من السرد ولو بشكل أقل، كما أن الكاتب اعتمد في السرد على لعبة الضمائر، فحل ضمير الغائب” هو” بوصفه صوت الراوي الذي يقدم الشخصيات أو الأحداث من وجهة نظره ومن جهته الخاصة.

ورغم هذا التنوع والتعدد فقد حافظت الرواية على وحدتها الموضوعية أو رسالتها التي أرادت أن توصلها إلى جمهور القراء، وهي الصرخة التي أطلقتها كتابة في محاولة إعادة قراءة الواقعة الحقيقية وما شابها من خروقات في المس المقدس بحياة الإنسان، وإعادة الاعتبار للمحاكمة العادلة المنشودة، لأن الجريمة وقعت بسبب ارتفاع منسوب الكراهية لكل من يحمل قيم الشرف والكراهية. وكذلك بسبب الفساد في شخص الجهاز النافذ والمتسلط. وما كريم إلا ضحية لهذا الفساد المستشري في جسم المجتمع بدليل أن من يغتصب ويقتل كيف له أن ينال حكما مخففا سقفه ثمانية سنوات. وبهذا تصبح الرواية آلية للتحليل والتفكيك ومفتوحة على كل التأويلات الممكنة.

III- مستويات اللغة في الرواية:

إن الحديث عن الشخصيات والأحداث المشكلة للرواية، يقودنا إلى معالجة اللغة التي انكتبت بها، باعتبارها عنصرا أساسيا لكل عملية إبداعية؛ بصرف النظر عن كونها أداة للوصف والتصوير، إنها تزدان بجملة من المرجعيات التي يهدف الروائي/ الكاتب إلى إبرازها في المتن الروائي.” إنها سيرورة تطور متواصل، تتحقق عبر التفاعل اللفظي المجتمعي للمتكلمين.” [29]

استثمر الكاتب المخزون اللغوي الذي يتشكل منه المجتمع، ومن أشكال القول المتاحة أمامه، لذا نجده يتوسل من أجل إيصال الملفوظ السردي للقارئ بعدة لغات. تتمظهر إلى جانب اللغة العربية الفصحى، اللغة العامية وخاصة اللهجة الجبلية المحلية للمنطقة بشكل مكثف. لنتأمل بعض الملفوظات ( مالك مطرنن) ( والله القران ديال باباك وغيرتها، لا انت بني ولا كنعرفك.) بالإضافة إلى اللهجة المغربية. لنأخذ بعض العينات من هذه الملفوظات على سبيل المثال لا الحصر.( سيري عند خالتك عيشي معاها) ( ما غاديش يقبل) ( أش بان ليك أجميلة نشركو الطعام؟) ( عبدالرحمن مكيهموش الفلوس، تكرفسات عليه داك الكلبة)( ما عندي ما ندير ليك، ما غاديش نخرج على الخدمة وعلى العشرة معاهم.) ( برهوشة ديال الخلا، خربقاتكم.) ( فاطمة قنبولة). كما أن الكاتب استعان بملفوظات غريبة استنبتت في التداول اليومي ليظهر مدى تأثر اللغة بالواقع الجديد الذي عرفته المنطقة بعد زراعة الكيف، إنه اقتراض لغوي من قاموس ممتهني تحويل عشبة الكيف إلى مخدر الحشيش. مثالا لذلك: ( يضربون عشبة الكيف) ( جوج ضربات وتعسيلة)( أصحاب الطبسيلة). كما أن الكاتب استعان بلغة الإسفال الجسدي ليضفي جمالية فنية للنص، وكذلك لينقل الواقع كما هو دون تنميق في ظل المتغيرات التي عرفتها المنطقة بعد تداول زراعة الكيف، والشخصيات المستعملة لهذا القاموس تبين مدى انحدارها الأخلاقي في السلم الاجتماعي. جميلة وعبدالرحمن نموذجان للشخصية النشاز التي صنعها واقع الحال. كل منهما يحمل في طيات ذاته ندوبا وآلاما مما ساهم في تدهور حالتهما النفسية نتيجة إحساسهما بالدونية. وما لجوء جميلة إلى الدعارة إلا نوعا من التمرد على واقع مجتمعي ووسيلة للاستمرار في الحياة في ظل خذلان المجتمع الذكوري. أما عبدالرحمن فقد سبب له رفض فاطمة إحساسا بالدونية، وتمرد بعربدته وتماديه هروبا من الألم في محاولة منه للانفصال عن الواقع، وما استعماله لذلك القاموس إلا آلية للدفاع عن ذاته المفقودة.

تأسيسا على هذا السجل من اللغة الدارجة المستعملة في الرواية، فإنها استرفدت أشكال تعبيرية أخرى، وهكذا انفتحت على الأمثال الشعبية بوصفها أشكالا بسيطة تمتاز بغنى الدلالة وتلخص خبرات حياتية. لنتأمل هذه العينة من الأمثال التي استخدمها الكاتب على لسان شخصياته.

” لي فيه النصيب يجيبو الله” / ” لي هرب من الزواج هرب من طاعة الله.” / رد بالك من السكوتي، ولا ترد بالك من الهرهوري.”/ ما ديرش، ما تخافش” / ” ضرب وقيس.” .

تجسدت هذه الأمثال بالقول الدارج، تعبيرا عن الحمولة الثقافية للموروث الثقافي المترسخ في ذهنية المتكلمين، كما أنها حملت مواقف من بعض القضايا، كالزواج الذي يرتبط يواجب ديني. تجنب المشاركة في بعض الأفعال التي تثير المصاعب مما يولد الخوف من ممارستها. الاستكانة لقضاء الله وقدره في تصريف الأمور دون الحاجة إلى القلق، وأخيرا التحذير من التهور في الإقدام على ممارسة العنف.

يتبدى أن الكاتب التجأ لتقنية الأمثال ليعزز به التداول الشعبي بين الشخصيات أسلوبا للحوار، لتقريب القارئ من فهم واقع الشخصيات الثقافية والاجتماعية وطبيعة تفكيرها ورؤيتها للعالم.

في سياق الخروج عن المألوف والتعدد في فن القول الذي تبناه الكاتب طريقة للتعبير والقول. استحضر الأغنية الشعبية كمكون أساسي بوصفها نصا موازيا ساهم في تكسير خطية السرد وأضفى تنوعا فنيا على الرواية. ما يعزز تحليلنا هو التنبيه رقم اثنان الذي أشار إليه الكاتب، وطلب من القارئ أن يتمعن في كلمات الأغنية قبل أن يبدأ في قراءة الرواية. هذا الحامل الإلكتروني المنشور على موقع يوتوب يمكن اعتباره وثيقة خارج نصية ساهم في توليد بنية سردية جديدة تضفي رونقا وتنوعا في الكتابة وأضفي على النص الطابع الواقعي. بالإضافة إلى استرفاد بعض الأهاجيج الشعبية وخاصة بعض الأنواع المحلية كالعيوع بوصفه نمطا من الغناء الشفهي التقليدي المعروف في منطقة جبالة، والذي يمكن اعتباره أداة فنية ثقافية، واستعماله في المتن الروائي لم يكن اعتباطيا بقدر ما أراد به الكاتب تتبيت المحلية في الرواية، وإعادة الاعتبار للتراث الجبلي كمكون هوياتي لمنطقة جبالة.

على سبيل الاستنتاج:

هذه هي رواية المغتصبة سيرة فاطمة المسارية، تقاطع فيها الواقعي بالتخييلي، وفاحت بعبق المكان وقربتنا من واقعة الاغتصاب والقتل وفتحت للقارئ آفاق التأويل للتأمل فيما تؤول إليه المجتمعات بعدما يعم فيها الفساد ويصبح بنية قائمة الذات. والنص بشكل عام سلك خطا مغايرا في الكتابة، إذ خرج عن المألوف والتنميط، بانفتاحه على طرائق القول في الكتابة تعددا وتنوعا. بهذا يكون الكاتب قد حقق نصا منفلتا من التقعيد والقولبة.

 

   [1] محمد القاضي، معجم السرديات، دار محمد علي للنشر، الطبعة الأولى، عام 2010، ص101

[2] ميخائيل باختين، شعرية دوستويفيسكي، ترجميل نصيف التكريتي، مراجعة، حياة شرارة، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة 1، سنة 1986، ص19

[3] تزتيفان تودوروف، الشعرية ، ترجمة شكري المبخوت ورجاء سلامة، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط1، 1987، ص81

[4] ميخائيل باختين، شعرية دوستويفيسكي، مرجع مذكور،ص19

[5] نفس المرجع، ص69

[6] ميخائيل باختين، شعرية دوستويفيسكي، مرجع سابق، ص124

 [7] الرواية، ص 13

 [8] الرواية، ص 14

[9] الرواية، ص 23

[10] الرواية، ص52

[11] الرواية، ص75

[12] الرواية، ص 97

[13] الرواية، ص99

[14] الرواية، ص109

[15] الرواية، ص29

[16] الرواية، ص45

[17] الرواية، ص77

[18] الرواية، ص65

[19] الرواية، ص 66

[20] الرواية، ص86

[21] الرواية، ص95

[22] الرواية، ص119

[23] الرواية، ص131

[24] الرواية، ص131

[25] الرواية، ص146

[26] نفسه، ص151

[27] نفسه، ص152

[28] الرواية، ص158

[29] ميخائيل باختين، الماركسية وفلسفة اللغة، ترجمة محمد البكري ويمنى العيد، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، ط1، 1986،ص134

اظهر المزيد

عزيزة حلاق

مديرة مجلة بسمة نسائية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

تم اكتشاف Adblock المرجو وضع مجلة بسمة في القائمة البيضاء نحن نعول على ايرادات الاعلانات لاستمرارية سير المجلة. شكرا