هل نعيش اليوم ما حذر منه أندرس:موت التعليم؟

حديث بسمة/ عزيزة حلاق
في عام 1956، كتب الفيلسوف الألماني “غونتر أندرس”، في كتابه “تقادم الإنسان”، نصًا يشبه النبوءة حين قال: “لكي نُخمد أي تمرد مسبقًا، لا حاجة للعنف، يكفي أن نخنق العقل بخفض جودة التعليم وتحويله إلى مجرد أداة للإدماج المهني”..
سبعون سنة مضت، والواقع اليوم في المغرب يبدو كترجمة حرفية لهذا السيناريو المخيف، الصادم والمظلم.
فالتعليم العمومي، الذي كان يُفترض أن يكون قاطرة نحو التقدم والعدالة، أصبح مرآة مشروخة تعكس أعطاب المجتمع بأكمله.
المناهج التلقينية، الاكتظاظ، غياب البيداغوجيا الحديثة، تهميش الفلسفة والفكر النقدي، وأستاذ مهدد أكثر مما هو محترم… كل هذا جعل من المدرسة فضاء مفرغا من محتواه المعرفي و التربوي.
لكن الأخطر من التراجع الأكاديمي، هو ما يحدث داخل جدران المؤسسات التعليمية، بعد أن تحوّلت المدرسة ـ كما تُظهر عشرات الحالات ـ إلى حلبة للملاكمة وساحة للعنف والانحراف.
تلميذ يعتدي على أستاذه بالضرب، آخر يشهر سلاحًا أبيض، وآخرون يوثقون المشهد بفخر على هواتفهم ويتنمرون.
هذا هو واقعنا اليوم، ظاهرة العنف بين التلاميذ لم تعد استثناء، بل قاعدة صادمة. ثم تأتي المخدرات كأخطر ضيف على المدرسة المغربية. قضية التلميذة سلمى، التي سبق أن خصصنا لها مقالاً، وقضايا كثيرة أخرى، كشفت المستور: شبكات ترويج المخدرات وسط التلاميذ، أقسام تحولت إلى نقاط استهلاك، وغض طرف مريب في كثير من الحالات.
فأي تعليم يمكن أن يُبنى فوق هذا الخراب الأخلاقي؟
ضف إلى ذلك، ظاهرة الغش في الامتحانات، التي أصبحت حقا مكتسبا في أعين البعض. التلميذ الذي يُضبط متلبسًا لا يشعر بالخجل، بل يعتبر نفسه ضحية نظام لا يُكافئ سوى من “يلعب اللعبة صح”. إنها أخلاق السوق وقد دخلت الفصل الدراسي من أوسع أبوابه.
“غونتر أندرس” حذر من كل هذا، حين قال إن “الفرد الجاهل لا يستطيع التمرد”، وإن “الإشهار والاستهلاك يصبحان معيار السعادة”، وإن “التعليم يصبح وسيلة للترويض لا للتحرر”.
فهل نبالغ إن قلنا إن المدرسة المغربية اليوم تعيش هذه النبوءة، ليس كتحذير، بل كواقع مأساوي؟
الأسئلة كثيرة، والجواب لا يكمن فقط في الميزانيات، بل في إرادة سياسية وثقافية حقيقية تُعيد للمدرسة هيبتها، وتربط بين التعليم والقيم، بين المعرفة والكرامة. إن استمرار هذا الوضع ليس مجرد إخفاق تربوي، بل قنبلة اجتماعية موقوتة.
فحين تتحول المدرسة من فضاء للعلم والمعرفة إلى بؤرة للعنف والانحراف واللامعنى، فنحن لا نضيع فقط سنوات من عمر التلاميذ، بل نُقامر بمستقبل وطن بأكمله.
المدرسة ليست بناية، بل مشروع حضاري. وإن لم نُبادر اليوم بإصلاح حقيقي وشجاع، فقد يأتي الغد محملا بجيل تائه، بلا فكر، بلا قيم، وبلا أمل.