انضموا لنا سيسعدنا تواجدكم معنا

انضمام
رأيهم

المثقف والتاريخ: الرواية نموذجاً

حين يصبح التاريخ ملجأً نفسياً وفكرياً من مواجهة تعقيدات الواقع..

السؤال الذي يطرح نفسه بقوة: متى ندرك أن الهروب إلى الماضي ليس حلاً؟ أن استعادة أمجاد الأندلس لن تبني جامعاتنا، وأن الحديث عن صلاح الدين لن يحرر فلسطين؟

بقلم: عبد العزيز العبدي

في عالمٍ يزداد تعقيداً، حيث تتدافع الأسئلة الصعبة وتتصاعد التحديات، نجد كثيراً من المثقفين والروائيين العرب والمغاربة يلجأون إلى التاريخ ليس كمنهج لفهم الحاضر، بل كملاذٍ آمن من مواجهته.

هذه الظاهرة ليست جديدة، لكنها تتفاقم مع تعقد الأزمات المعاصرة. ففي مواجهة تحديات مثل القمع السياسي المتفاقم، أو الأزمات الاقتصادية الطاحنة، أو التحديات الثقافية في عصر العولمة، يجد العديد من المثقفين أنفسهم عاجزين عن تقديم تحليل جريء أو حلول عملية. فبدلاً من خوض معركة نقد الواقع المرير، يلجأون إلى التاريخ كمساحة آمنة. بعض الروائيين يفضلون الكتابة عن محاكم التفتيش في الأندلس بدلاً من معالجة قضايا التطرف الديني اليوم، أو يتناولون الاستعمار الفرنسي للمغرب بدلاً من مناقشة أشكال الهيمنة الجديدة في عصرنا. هذه النزعة تعكس أزمة المثقف العربي المعاصر في التعامل مع الحاضر، حيث يصبح التاريخ ملجأً نفسياً وفكرياً من مواجهة تعقيدات الواقع.

هذا الهروب الذي يتخذ أشكالاً متعددة – من التغني بأمجاد الماضي إلى اجترار الصراعات التاريخية – ليس بريئاً كما يبدو، بل هو في جوهره تعبير عن خوفٍ مزدوج: خوف من سلطة الواقع القمعية، وخوف من مواجهة الذات والمجتمع بأسئلته المحرجة.

يمكن تتبع مظاهر هذا الهروب في المشهد الثقافي العربي والمغربي المعاصر. فمن ناحية، هناك خطاب يعتمد على “النوستالجيا” للماضي، مثل التركيز المفرط على “العصر الذهبي” للحضارة الإسلامية في العصور الوسطى، بينما يتم تجاهل الإنجازات المعاصرة أو التحديات الراهنة. ومن ناحية أخرى، هناك اجترار مستمر للصراعات التاريخية كتفسير وحيد لأزمات الحاضر، مثل التركيز على سايكس بيكو كسبب لكل مشاكل المنطقة، دون اعتبار للعوامل الداخلية بالنسبة للعالم العربي، أو محكيات من فترة الاستعمار أو من فترة العصور القديمة بالنسبة للمغرب. هذا النهج ليس محايداً، بل يعكس خوفاً مزدوجاً: خوفاً من مواجهة سلطات قمعية قد تعاقب من يتجرأ على نقد الوضع الراهن، وخوفاً من مواجهة المجتمع بأسئلة محرجة عن أسباب تخلفه وعن مسؤولية النخب في هذا التخلف.

الروائيون الهاربون إلى التاريخ كثيرون، أولئك الذين يفضلون الكتابة عن صراعات الأمس بدلاً من معارك اليوم، عن الاستعمار القديم بدلاً من الهيمنة الجديدة، عن الظلم العباسي بدلاً من القمع المعاصر.

في الأدب العربي المعاصر، نجد أمثلة عديدة على هذا النمط. بعض الروائيين يختارون الكتابة عن الفتنة الكبرى في الإسلام المبكر بدلاً من معالجة الانقسامات الطائفية الحالية، أو يتناولون مقاومة الاستعمار الفرنسي في الجزائر او في المغرب بدلاً من مناقشة أشكال التبعية الجديدة للغرب. هذه الأعمال، رغم قيمتها الأدبية، تطرح سؤالاً عن دوافع هذا الاختيار: هل هو بحث أصيل عن الحقيقة التاريخية، أم هروب من مواجهة الحاضر؟

هذا يوضح كيف أن التاريخ قد يصبح سوقاً أدبياً مربحاً وأكثر أماناً للروائي.

لكن ثمة روائيين استطاعوا تحويل التاريخ إلى مرآة للحاضر بدلاً من أن يكون ملاذاً منه. أولئك الذين فهموا أن قيمة الماضي ليست في الهروب إليه، بل في استخدامه كأداة لفهم الحاضر وتغييره.

هناك نماذج مشرقة في الأدب العربي استطاعت توظيف التاريخ بشكل خلاق. جمال الغيطاني في “الزيني بركات” لم يكتب عن المماليك كموضوع تاريخي مجرد، بل استخدمهم كمرآة تعكس آليات الاستبداد التي لا تزال تعمل حتى اليوم. كذلك فعلت أحلام مستغانمي في “ذاكرة الجسد” التي حولت التاريخ الجزائري إلى أداة لفهم الهوية المعاصرة. هؤلاء الكتاب لم يهربوا إلى الماضي، بل استخدموه كعدسة مكبرة تكشف حقائق الحاضر. إنهم يقدمون نموذجاً لكيفية توظيف التاريخ في الأدب دون الوقوع في فخ الهروب من الواقع، حيث يصبح الماضي وسيلة لفهم الحاضر وليس بديلاً عنه.

في النهاية، السؤال الذي يطرح نفسه بقوة: متى ندرك أن الهروب إلى الماضي ليس حلاً؟ أن استعادة أمجاد الأندلس لن تبني جامعاتنا، وأن الحديث عن صلاح الدين لن يحرر فلسطين؟

هذا السؤال الجوهري يضعنا أمام مفترق طرق ثقافي. ففي الوقت الذي تنشغل فيه النخب الثقافية العربية بجدل لا ينتهي حول الماضي، تتسارع وتيرة التغيير في العالم من حولنا. جامعاتنا تتراجع في التصنيفات العالمية بينما نناقش إنجازات الحضارة الإسلامية القديمة. التكنولوجيا تغير وجه العالم بينما نحن منشغلون بصراعات الأمس. القضية الفلسطينية تحتاج إلى أدوات نضال معاصرة بينما نستعيد خطابات تاريخية. هذا لا يعني إلغاء الاهتمام بالتاريخ، بل يعني رفض استخدامه كذريعة للهروب من المسؤولية عن الحاضر والمستقبل.

المطلوب اليوم ليس روائيين حراساً للذاكرة، بل صانعين للوعي، ليس مؤرخين للماضي، بل فاعلين في الحاضر. لأن الأدب الحقيقي ليس ذلك الذي يريحنا من واقعنا، بل ذلك الذي يزعجنا كي نغيره.

الأدب العظيم عبر التاريخ لم يكن ملاذاً من الواقع، بل مواجهة جريئة معه. عندما كتب دوستويفسكي عن الجريمة والعقاب، أو عندما كتب نجيب محفوظ عن المجتمع المصري، لم يكونا يهربان إلى الماضي، بل كانا يغوصان في أعماق الواقع الإنساني. اليوم، يحتاج الأدب المغربي إلى هذه الشجاعة: شجاعة مواجهة التعقيدات الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية التي يعيشها الإنسان المغربي اليوم. يحتاج إلى روائيين يستطيعون تحويل الأدب من سرد للماضي إلى أداة لفهم الحاضر وصناعة المستقبل. فقط حينئذ سيكون للأدب دوره الحقيقي في التغيير والنهضة.

اظهر المزيد

عزيزة حلاق

مديرة مجلة بسمة نسائية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

تم اكتشاف Adblock المرجو وضع مجلة بسمة في القائمة البيضاء نحن نعول على ايرادات الاعلانات لاستمرارية سير المجلة. شكرا