انضموا لنا سيسعدنا تواجدكم معنا

انضمام
اصواتهن

أجنحة حلم فاطمة المرنيسي

بقلم: مريم أبوري*

هناك كُتاب وكاتبات إذا لم تقرأ لهم منذ مدة تشعر فجأة بحنين جارف يجرك إلى كتاباتهم، فتترك كل ما بين يديك من كتب ودراسات، ولا تهتم لتلك اللائحة التي وضعتها لقراءتها من كتب وروايات جديدة. تنقب عن إصداراتهم في مكتبتك الورقية والالكترونية، فما أن تلمح إحدى كتبهم تحضنه بفرح كما تحضن عزيزا اشتقت إليه. هذا ما يقع لي كل سنة مع كتابات فاطمة المرنيسي، أخرج جل كتبها وأبدأ إعادة قراءتها بشعور من يجدد اللقاء بمحبوبته وبصمت وابتسامة كبيرة تعلو محياه ينصت لها وهي تسرد عليه حكاياتها التي يعرفها جيدا، فيجد متعة متجددة ورائعة في تجديد اللقاء بها والاستمتاع بالإنصات لحكيها.

أتقاسم معكم اليوم تلك المتعة الكبيرة التي عشتها، وقد سافرت بي مرة أخرى إلى عالم طفولتها وإلى مغرب ومدينة فاس في الأربعينيات من القرن الماضي، من خلال بساط الريح “نساء على أجنحة الحلم”. هي رواية وسيرة ذاتية لطفولة فاطمة المرنيسي، تدخل القارئ إلى عالم عائلات مغربية خلال الأربعينيات من القرن الماضي من خلال عائلتها بمدينة فاس وعائلة التازي بالقرية، ومن خلال حكايات عن نساء هاتين العائلتين تعرفنا على عالمين من حريم المغرب، عالمان طبعا، كونا شخصيتها الصغيرة، عالم الشدة والمحافظة والتشبث بالتقاليد والدفاع عنها، وهذا الدور لعبته الفقهية للاطم والجدة من الأب للامهاني وزوجة العم.. وعالم التوق للانعتاق والتحرر والمطالبة بالمساواة بين المرأة والرجل والتمرد الذي لا يتعدى سور الحريم مع أم فاطمة وابنت عمها شامة وجدتها البدوية ياسمين، أم الأم. وصنف من النساء اللواتي ينتظرن الانعتاق، ولكن لا يجرؤن على إظهار هذا، خوفا لأنهن لا يتوفرن على نفس المكانة الاجتماعية التي تتوفر عليها باقي نساء الحريمين الحضري والقروي، والذي تمثله العمة المطلقة وباقي النساء من خادمات..

داخل أسوار هذين الحريمين ترعرعت كاتبتنا فاطمة المرنيسي رحمها الله، فتشربت مفهوم “حدود الحريم “، الذي رُبط بينه وبين الحدود التي حددها الاستعمار على مدينتها فاس، وفهمت أن ذكاء الكلمات قد أنقذت شهرزاد من بطش الخليفة، وهذا جعلها ودفع بها أن تكون قاصة مثل شهرزاد وعمتها وابنة عمها شامة، وأن الاستعمار الفرنسي، كانت المدينة القديمة حريم له، يخاف أن يدخله مخافة التيهان. وتعلمت من جدتها الياسمين الانطلاق، ومن أمها عدم الخضوع. وكان أول عروض مسرحية، حضرت لها وشاركت فيها، هي العروض التي كانت شامة وعمتها تعدها، فتعرفت من خلالها على عدة نساء كأسمهان وأم كلثوم وهدى الشعراوي والأميرة بدور وزوجات الرسول صلى الله عليه وسلم، التي كانت تعرض عروض مسرحية عنها تحث طلب لالة مهاني خلال شهر رمضان.

تعرفت على عالم الرق والعبودية من خلال حكايات الخادمة مينة السودانية، وعلى بطولات النساء المغربيات من خلال بطولات الفارسة طامو إحدى زوجات جدها. واستفزتها وأخافتها فكرة “الحريم اللامرئي” الذي قد يعشعش في دواخلنا ولو كنا في أفسح فضاء كما شرحت لها جدتها ياسمين.

عاشت مرح نساء حريم البادية اللواتي يحاولن اقتناصه، مثل لذة  غسل الأواني  في النهر وركوب  الخيل والسباق، وجمع الورود والأزهار والأعشاب النادرة من أجل صنع مواد تجميلية تقليدية، التي لم تتنازل عنها أمها أمام إغراء مواد التجميل المصنعة، حيث أنها رفضت أن تقتلع  منها السلطة الوحيدة التي لها على نفسها، وهي سلطة تحضير مواد تجميلها  بنفسها ،وهذا يجسد  لها بعض من حريتها التي لا تتمتع بها كلها..

ويبقى الحمام من أهم المناسبات الأسبوعية التي تجد فيها حريم المدينة متنفسا للخروج من أسوار الحريم، الحمام الذي يوم طرد منه ابن عمها سمير عرفت أنهما لم يظلا طفلين. وبعد حضور للعروض الأخيرة لأفلام بالسينما تعيد شامة والعمة وباقي أعضاء الفرقة تجسيدها على سطح الدار، بعيدا عن بهو الطابق السفلي حيث لا يسمح بمثل هذه الأمور” غير المحتشمة”.

تعرفت فاطمة على الحب بحضور جلسات سمر على ضوء القمر تجمع بين شباب وشابات عائلتها وعائلة الجيران بدون أن يكون أي تواصل مباشر، حيث تكون الرسائل عبر غناء أغاني إسمهان وعبد الوهاب وتبادل الرسائل عبر الأطفال الصغار كمرسال.. وكان للصحف الفرنسية والمذياع دور كبير كقناة لمعرفة الأخبار، كان يستحوذ عليها الرجال في قاعتهم وممنوع على نساء الحريم، اللواتي لم يغلبن لكي يحصلن على نسخة من مفتاح المذياع لكي ينصتن للأغاني في سرية تامة. وكما رسخت فيها أمها وجدتها ياسمين وعمتها وبنت عمها حب التمرد والتوق للحرية، زرعت هذه النسوة كذلك ونشقت حب الجمال والتجمل والاهتمام بجمال جسدها وبشرتها بمواد التجميل التقليدية والاهتمام خصوصا بالشعر الذي يعد رمز قوة وشخصية نساء الحريم.

تعلمت أن كل النساء لها أجنحة حلم، ومنذ صغرها كانت تتعلم الطيران عبر أحلامها هي الأخرى.

عندما نغوص في شخصيات النساء في الحريم الحضري والقروي، نفهم شخصية الكاتبة فاطمة المرنيسي، فقد أخذت سواء الكثير أو القليل من كل امرأة من هؤلاء النساء، فكانت لها شخصية حداثية دون التفريط في أصالتها، امرأة تنشد الحرية انطلاقا من ثراتها ودينها وثقافتها المغربية عامة والفاسية خاصة.

وأنا أقرأ هذه الرواية تخيلت فاطمة المرنيسي رحمها الله، جالسة على زربية مغربية مزركشة بألوان مبهجة، وهي ترتدي قفطان مغربي يمزج بين الأصالة والمعاصرة، وتضع مجوهرات من صنعها، وهي تتوسط نساء مغربيات وعربيات وأنا منهن، ننصت لحكيها الجميل والسلس عن ” نساء جناح الحلم”، تحكيها بابتسامتها الجميلة، ابتسامة الأمل في مستقبل جميل لباقي نساء المغرب.

*كاتبة مغربية مقيمة بفرنسا

اظهر المزيد

عزيزة حلاق

مديرة مجلة بسمة نسائية

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

تم اكتشاف Adblock المرجو وضع مجلة بسمة في القائمة البيضاء نحن نعول على ايرادات الاعلانات لاستمرارية سير المجلة. شكرا