
- بقلم: زكية حادوش
رسالتي هذه المرة رسالة مفتوحة، موجهة إلى نفسي…في عيد ميلادي الخامس والخمسين. قد تعجبون لامرأة تعلن عن سنها على رؤوس الأشهاد ولا تخفي تجاعيد وجهها الطفولي ولا مفرقها المشتعل شيبا. لكن، دعوني أخبركم أني أعتبر كل ندبة من ندوب عمري وكل خصلة بيضاء في شعري وكل خط رفيع على يدي وكل وشم على جسدي وساما أعلقه بفخر على صدري إلى آخر رمق.
ليس من السهل أن أستمر في العيش أنا من قطعت شراييني وأنا بعد طفلة، وسبحت مرارا في البحر الهائج نحو الأفق بكل قواي ووددت أن أصل حد الإنهاك وأترك نفسي أغرق بهدوء بعيدا عن الشاطئ والبشر. ليس من البدهي للغرباء في بلادهم مثلي، الذين يحسون في كل لحظة أنهم ولدوا في المكان الخطأ وفي الزمان الخطأ، أن يتخطوا النصف قرن بنصف عقد ويظلوا صامدين هاهنا.
هكذا مرت سنيني، بعنف أحيانا وبلامبالاة أحيانا، لكنها بالتأكيد لم تمر مرور الكرام. لا مجال للملل وللروتين اليومي والأسبوعي والشهري والسنوي في حياتي. والخلاصة بعد 20075 يوم من عمري، أني عشت متمردة وقاومت وانهزمت بمقاييس الربح والخسارة المتعارف عليها. تمردت على الثقافة السائدة وعلى النظام السائد والعقلية الجامدة وأنا في زهرة العمر، وقاومت الظلم بكل ما أوتيت من رجولة، وحاربت في ساحة العشق والحياة بكل شغفي ودفق أنوثتي.
ها أنا ذا، بعد أن فقدت أبي وحتى أمي وتُرِكتُ عارية وحافية في مهب الخلق…بعد أن صليت الجنازة على أحبابي وأبَّنتهم إلى قبورهم واحدا واحدا، بعد أن اختلست لحظات فرح، ورقصت في كل الحفلات التي حضرتها دون استثناء وحاولت قدر الإمكان بث الجمال والسعادة من حولي وزرع الحب حتى في البوار. لم يقتلني عشق الوطن، لم يكسر شوكتي لا الظلم ولا الطغيان ولم ينحن ظهري تحت ثقل أوزار المسؤولية التي تحملتها منذ بلغت سن الرشد القانوني.
ما زلت أحيى بينكم، وأمشي في المنام، رغم هزيمتي في معركة الحياة…رغم ألم الفقد ومرارة الظلم وطعنات الغدر التي توالت علي في السنوات الأخيرة، من القريب قبل البعيد. بقلبي المكسور، وشظاياي المتناثرة في الزمان والمكان، أعيش كما كنت، أحمل شغبي الجميل وكفني على كتفي وأركض نحو المجهول. أنشر ما استطعت من ندف السعادة والمرح والسخرية وإلى أن ينتهي مساري البسيط سأظل مخلصة لنفسي وللأرض والحياة، نكاية في الموت…
ما زال في الجعبة حكايا ونكت، وفي القلب معين لا ينضب، وفي الذاكرة ملح الأيام وسكر السويعات. ما زال في العمر المتبقي متسع للأمل، للمراجعة أو الثبات على الموقف، لانتظار “كارما الظالم” و”دارما المظلوم”… والأهم، للتحضير لموت جميلة تليق بي.
- ملحوظة: كنت سأعنون هذا العمود “تحديا للموت”، لكن حضور توقيع كتاب الزميلة “اسمهان عمور”، عشية عيد ميلادي، “نكاية في الألم” ألهمني وفي تناص صارخ مع عنوانها سميته “نكاية في الموت”. لذلك، أستسمحها في استعمال هذه الصيغة وأستغل الفرصة للترحيب بها في مجال الكتابة الواسع الذي دخلته متوجسة فأتحفتنا بقلمها المبدع بعد أن أسرتنا لعقود بصوتها الإذاعي الفذ.