انضموا لنا سيسعدنا تواجدكم معنا

انضمام
أخبار بسمةثقافة وفنون

“نكاية في الألم” كتاب به انتصرت اسمهان عمور على أعطاب الوقت وآلامه

 "نكاية في الألم" كتاب مبهج في حزن، مؤلم فيما احتضنه من فقد ورحيل

صور: محمد بلميلود

بقلم: عبد العزيز كوكاس

الألم باب للنعيم، تألم لتشفى كما كان يقول جلال الدين الرومي، وقد اعتبر أسخيلوس “الألم يُعلّم الإنسان”، الألم هو سر الدهشة تجاه الوجود هو ما يدفعنا للتأمل

تقديم:

في أجواء أمسية دافئة غمرتها مشاعر المحبة والود والتقدير، احتضنت احدى قاعات المكتبة الوطنية بالرباط أمس الأربعاء 04 نونبر الجاري، حفل توقيع كتاب “نكاية في الألم”، الإصدار الأول للإعلامية المبدعة أسمهان عمور.

حملت كلمات أسمهان عمور، التي ألقتها بالمناسبة، الكثير من الشجن والعمق. بوحها تماهى مع نبض الحاضرين، الذين استمعوا بإحساس مرهف إلى سردها الشخصي المؤثر عن كيفية تحويل آلام الفقد واليتم والغياب إلى مصدر للإلهام ودافع للكتابة. كان الحديث بمثابة دعوة مفتوحة لرؤية الجمال والفرح حتى وسط أقسى التجارب الإنسانية.

في هذه الوقفة، ننشر قراءة قوية للكاتب والإعلامي عبد العزيز كوكاس، مقدما رؤية عميقة حول هذا العمل الأدبي الذي يُعد شهادة صادقة على قدرة الإنسان على تحويل الألم إلى قوة إبداعية. على أن نقدم لاحقا تغطية شاملة لهذا الحدث الثقافي الفريد الذي يجمع بين الحرف والروح.

ألف مبروك لأسمهان عمور المولود الجديد، الذي يؤكد أن الكلمة الصادقة قادرة على مواجهة الألم وانتزاع الفرح من بين أنقاضه.

عبد العزيز كوكاس:

“الألم باب للنعيم، تألم لتشفى كما كان يقول جلال الدين الرومي، وقد اعتبر أسخيلوس “الألم يُعلّم الإنسان”، الألم هو سر الدهشة تجاه الوجود هو ما يدفعنا للتأمل.

لقد قدر لهذا الثلاثي: الألم والأمل والتأمل أن تكون متجاورة في الأصوات، مترابطة فيما تمنحه للذات الإنسانية.. التأمل هو إدراك للألم، هو ما يجعلنا نبدع ونكتشف أسرار ما يؤلمنا ويفتح لنا الأمل لكي نشفى.. فالحقيقة شقيقة الألم وكنهه.

أما النكاية فأخت الجرح وند الألم، نكى الجرح قشره قبل أن يبرأ، نكى العدو قهره وغلبه وقتله قتلا وتجريحا، والكتابة هي نكاية بالألم، معناها العميق تقشير الألم وهو حي، إننا نكتب لكي لا نموت.، نحن إذن أمام عنوان باذخ الشاعرية.

هناك فيما أعلم أربعة كتب مغربية صدرت بعنوان “نكاية في..”، أولها كتاب شذري لسعد سرحان “نكاية في حطاب ما”، ثم كتاب “نكاية في الجغرافيا” لهشام بن الشاوي يتضمن سلسلة حوارات مع مبدعين ونقاد مغاربة وعرب في مجالات شتى، ثم كتاب “نكاية في هيراقليطس” وهو سيرة روائية لأحمد الويزي. ثم كتاب “نكاية بالعتمة” وهو ديوان شعري للشاعرة آمال هدازي.

وأذكر كتاب “سلوة المحبين والمريدين ونكاية الحاسدين والجاحدين في مناقب سيدي محمد ابن الفقيه أحد الأفراد العارفين لأبي محمد عبد الله بن يخلف الأنصاري في القرن 18 من مدينة فاس.

 إضافة إلى كتاب أجنبي بعنوان “نكاية بالموت رقصة على صوت النواح” للكردي هوار بلو وهو كتاب في التنمية البشرية وتطوير المهارات الذاتية من هنا غرابة العنوان.

نجد النكاية أيضا في كتب فقه الجهاد، حيث ميز الفقهاء بين قتال النكاية وقتال التمكين بناء على تقسيمهم الجهاد: إلى جهاد دفع وجهاد ردع، الأول يكون دفعاً عن دار الإسلام وحرمات المسلمين إذا دهمهم العدو، والثاني يكون بطلب الكفار في ديارهم أو قتالهم حيث كانوا، وقصدوا به القتال الذي يكون الهدف منه التنكيل بأعداء الله حسب المفهوم الفقهي القديم، أي النكاية في الأعداء وإغاظتهم والنيل منهم.

أما “نكاية في الألم” فكتاب مبهج في حزن، مؤلم فيما احتضنه من فقد ورحيل، به انتصرت اسمهان على أعطاب الوقت وآلامه.

اسمهان عمور: صوت إذاعي متفرد

اسمهان عمور وجه إعلامي بارز، صوت إذاعي ظل يأتينا عبر الأثير بلكنة خاصة ودفء متميز، أعطاها هوية متفردة ضمن المذيعين الكبار بعد جيل الرواد، وهي التي قضت 30 سنة أمام ميكروفون الإذاعة الوطنية، مرورا بمختلف التجارب الإعلامية العربية والدولية منmbc  إلى إذاعة bbc فالإذاعة الألمانية dw… ومن خلال برامج ثقافية عديدة: “حقيبة الأسبوع”، “زهور”، “بانوراما”، “حبر وقلم” والبرنامج الموسمي “لآلئ من الشرق وأدباء من أرض الكنانة”، إضافة إلى برنامج مشترك مع رفيق دربها في العشق والمهنة، الحسين العمراني، “أزواج متألقون”… يتعلق الأمر بسفر طويل في العالم السمعي بَصمتْ من خلاله صاحبة هذا الكتاب على تجربة متميزة بنبرة أنيقة جعلتها تحتل مكانا مرموقا في قلب المستمعين وبين المثقفين ومختلف المبدعين داخل المغرب وفي العالم العربي…

تُطل علينا اسمهان عمور هنا عبر الكتابة لا الأثير، الأثر هنا ملموس محسوس، أسود الحبر على أبيض الورق، عبر كتاب اختارت له عنوان “نكاية في الألم”، له طابع جنس اليوميات حيث تتداخل التأملات والانطباعات مع تجارب من حياة الكاتبة من سيرتها الذاتية ومن احتكاكها بمحيطها في تفاصيل المعيش اليومي.. تتقاطع في الكتاب وقائع وأحداث كانت تعبر حياة الكاتبة، ونتفا من مقاطع تجربة ذاتية مبثوثة هنا وهناك، مليئة بالنوستالجيا، مع استعادة فضاءات وأزمنة، تجارب ومحن، هزائم وانكسارات عبَرت جسد الكاتبة وقلبها ووشمت الجسد الاجتماعي بشكل عام.. لكنها أيضا كتابة تغيظ الألم وتتشفّى فيه، تقلقه وتضايقه لتثبت انتصارها على مخلفاته من جراح وانتكاسات لا تحصى..

نص في مديح الرحيل وذمه..نص في الموت وأشباهه..

“نكاية في الألم” نص يتدثر بحزن شفيف ناتج عن الغيابات القاسية ومختلف أشكال الرحيل.. الرحيل هنا بمعنييه: الارتحال أي الذهاب والسفر، الانتقال في المكان، وهذا كان ديدن اسمهان عمور داخل وخارج الوطن بحكم مهنتها، وقبل ذلك بحكم الوظيفة العسكرية للأب التي كانت تفرض التنقل بين مدن عديدة منذ طفولتها، والرحيل بمعنى الغياب والموت تعلق الأمر برحيل أشخاص، أفراد عائلة وأقارب وأصدقاء، من موت الوالد بسبب حادثة سير إلى وفاة فنانين أو زملاء في المهنة شملهم الفقد ممن حملوا ذاكرتهم “نحو الحقيقة الواحدة في الكون: الموت” كما تقول اسمهان عمور، أو تعلق الأمر بأمكنة أصابها التلف، مثل تلك الدور التي عبرتها اسمهان عمور من أهرمومو وقرية الزيتونة، صفرو وأحولي التي وجدتها حين زارتها، يبابا بعد ازدهار، أضحت “أقرب إلى الموت منها إلى الحياة”… أو تعلق الرحيل بفقد أزمنة: العمر الذهبي للعمل، ألفة وشكل عيش افتُقدَا مع “الزمن الجميل”، ريعان الشباب، “ليالي الأنس” التي حملت منها الكاتبة وشمها الدال على كينونتها: اسمهان.. أو كان فقد ذاكرة فردية أو جماعية تتعرض للتلاشي في زمن غير الزمن…  تقول: “هكذا وجدتني العمر كله واهبة وسخية ومانحة حتى كادت نفسي أن تشتكي ظلمي لها.. أنا التي لم أرمق انفلات لحظات العمر”.

قلب منفطر أوجعه الفقد

ما يعمق الألم في كتاب اسمهان عمور، هو زمن الكتابة ذاته الذي هو زمن موت كوني، مع سطوة وباء الإمبراطور كوفيد التاسع عشر، نحس صوت النحيب قادما من العبارات والجمل مثل هدير شلال، قلب منفطر أوجعه الفقد.. علاقة توتر بجسد الكاتبة، معاناة مع مرض ضعف القلب منذ زمن بعيد في بداية العمر والرحلة القاسية للعلاج والشلل الرعاشي على كبر، وما يخلفه كل ذلك من آلام وجودية.. اكتشفت اسمهان عمور الكتابة كدواء لداء الوجود في زمن كورونا، نكاية في الألم، أي تشفيا في هذا الموت الذي يخبط خبط عشواء، ويخطف كل يوم مقربين وأصدقاء لنا معهم ذكريات ووشائج عميقة، وأحسسنا جميعا أنه قريب منا، يعبث بنا، نشمّه، نسمع هسيسه مع كل مأتم في لحظة الوباء القاتل.. ألم تنتصر الفنون والآداب على الموت؟!

رغم أن الموت هو الحقيقة الوجودية المسلم بها مثل الحب، أو كما يقول سارتر: “إنني أقرر أن الموت كان المعنى السري لحياتي وإنني عشت لأموت، إنني أموت لأشهد بأن من المستحيل أن يعيش الإنسان”، إلى أن الأسئلة التي يخلفها فينا، أقوى بكثير من حزن الرحيل، الذي يصبح هنا موضوعا للتأمل تشفيا ونكاية بالآلام التي يخلفها، حتى لتغدو الكتابة مثل عشبة خلود نبحث عنها لترك الأثر، لأن “موت الآخر: موت مزدوج، لأن الآخر هو الموت الذي يجثو علي، كأنه هاجس الموت” بتعبير دريدا..

“نكاية في الألم انتصار للحياة”

كتاب “نكاية بالألم” هو انتصار للحياة، لعب قاسي مع الموت، لعب مخاتل فيه الكثير من الرجاء، كمن يتوسل الموت ليمهله قليلا حتى يحبّر هذه السطور، ثم تشف في الموت ونكاية بألمه الفردي والجماعي، حيث أعتبر صدور هذا الكتاب وحده أحد انتصارات اسمهان على الرحيل.

تُنصت الكاتبة ليس فقط لألم وجعها، بل تنفتح على هذا الفقد المتوالي لرموز وأصدقاء… للفقد الجماعي الذي فجعنا في إعلاميين ومثقفين ونشطاء في الحقل الاجتماعي، وحتى حين تتناول وقائع أو ترصد أحداثا في الحياة العادية، تتصيّد المنفلت منها بعين الصحافية، تحس بوجود وجع الفقد في كل التحولات التي أصابت أنماط التفكير وبنيات السلوك وتحول العلاقات الإنسانية… حيث تقيم مقارنات بين الحاضر والماضي كما في حادث حارس منتزه الحسن الثاني الذي التصقت أذنه بالمذياع، أو النساء اللواتي تعرضن للعنف الجسدي، أو خلال ما حدث في مرحلة الحجر الصحي، وتستعيد سحر الأثير الذي كنا نعرف صوت مذيعيه من النبرة الأولى، تلتقط ظواهر اجتماعية من عنف جنسي، وتغيرات السلوك، وفقدان الحميمية، تستحضر الرموز الدافئة التي أثثت فضاء الإذاعة بالكثير من الوجع لتحولات الزمان، وما فقدناه من لذة اللّمة الحميمية مع ظهور وسائط التواصل الحديثة.. وتصرخ فيما يشبه الحشرجة: “كم من السواد نحتاج لنلف هذا الحزن؟”

العمل في الإذاعة “كانت بداية رمّمت جرح انكساري وقهري”

وبرغم النغمة الحزينة التي تشوب معظم مفاصل كتاب “نكاية في الألم”، ينفتح النص على كُوات نور عديدة، بداية العمل في الإذاعة، “كانت بداية رمّمت جرح انكساري وقهري في ردهات مستشفى ابن سينا. كنت أفرح بالرسائل المختومة من مدن عديدة في المغرب والخارج، أقرأ ما صاغه المرسل فتكون الجرعة كافية للزهو وانفلات البسمات”.

استعادة أمكنة ووجوه قادمة من الزمن البعيد من الطفولة أو أيام العمل إلى جانب الرواد الكبار، بموازاة الرحلة الأدبية التي كانت تخوض غمارها في قصص وروايات كانت تفتح عينها على الوجود وهي بعد غرّة…

“يا الله لو أن للعمر عودة لالتصقت بزي أبي العسكري وأخذنا صورا حتى فوق اللغم”

تنتصر اسمهان عمور للحياة برغم كل الأعطاب، تتوقف عن علاج ضعف قلبها بعناد وتُوصيه ألا يتوقف نبضه ويقف إلى جانبها، تعاهدا معا وأكملا المسار.. تنتصر للحياة نكاية في وجه الألم الفردي والجماعي، أتصور مرارة البنت التي رحل والدها دون أن تكون لها معه صورة، وتعجبني الاستعارة الجميلة للكاتبة وهي تقول نكاية في الموت: “يا الله لو أن للعمر عودة لالتصقت بزي أب العسكري وأخذنا صورا حتى فوق اللغم”، صورة من قلب الموت، هي أكبر انتصار للحياة، لبقاء الأثر، للخلود، ولعل كتاب “نكاية الألم” هو نزع الأثر من براثن الموت، من فوق ألغام مرئية وغير مرئية.. “هزمتك الفنون يا موت” كما تغنى محمود درويش في جداريته الشهيرة.

الكتاب الذي لا يتضمن حكاية يقتل

يقول تودوروف الكتاب الذي لا يتضمن حكاية يقتل، وكتاب “نكاية بالألم” يتضمن نفسا حكائيا، سردا عاطفيا يتفجر ألما، يحتفي بالوصف البهي وبأسلوب شيق يسرد وقائع وأحداث بلغة أنيقة، تقول: “عند كل فتح جديد للباب الخشبي، بمزالج لا يقدر على لولبته إلا الكبار، نستقبل كل صباح بريقا ألماسيا للثلج الذي زيّن جبل بويبلان. كنا نحسه قريبا رغم ما يفصل البيت الطيني والجبل من مراع وسهول، وعلى ضفاف واد زلول تتشابك في مرمى البصر أشجار الأرز في تحد صارخ لقساوة المناخ. ونادرا ما كنا نلمح الضوء الباهت المنبعث من السيارات أو الحافلات المتهالكة خاصة مع فجر السوق الأسبوعي الذي يصادف يوم الاثنين في أهرمومو” .

 

اظهر المزيد

عزيزة حلاق

مديرة مجلة بسمة نسائية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

تم اكتشاف Adblock المرجو وضع مجلة بسمة في القائمة البيضاء نحن نعول على ايرادات الاعلانات لاستمرارية سير المجلة. شكرا