التوأم: سر الرقص مع الجن !!

بقلم: مريم أبوري
اللوحة والقصيدة توأمان، لا تستطيع أن تفرّق بينهما. فكما قال ذ. عبد الرحمن الغندور: “كل واحدة هي وحي من الأخرى، وهما معًا من وحي الوحدة”.
وأنا أقرأ كتاب “التخلّف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور”، وقد أثقل روحي تفكيكه لشخصية الإنسان العربي المقهور، ظهرت على شاشة الحاسوب إشعار بتدوينة جديدة للأستاذ عبد الرحمن الغندور. فتحتها هربًا من واقع المجتمع العربي المتخلف، لأنني متأكدة أنني سأجد متعة تنتظرني، كما هي العادة مع كتابات ولوحات ذ. الغندور، منذ اكتشفت حسابه في هذا الفضاء الأزرق.
ومن عادتي، حين يرفق ذ. عبد الرحمن لوحاته بنصوص، أن أشاهد اللوحة أولًا قبل قراءة النص. أفضّل أن أدخل في حوار مباشر مع اللوحة دون وساطة، أحب أن أستكشف أسرارها – أو ما يُخيل لي أنه أسرار – وأغوص في بحر الألوان وحدي، وأتجول في متاهات خطوطها ومكعباتها ودوائرها دون طلب المساعدة من النص.
ما إن وقعت عيني على اللوحة، حتى انتابتني حرارة من الرهبة والخوف. نعم، خوف يأتي من جمالٍ فاتن. شعرتُ بأن اللوحة تمتصّني وتدخلني في رقصة مع كناوة، وأنا المحبة المفتونة بأهازيج موسيقى كناوة. نزعتُ عني بعض الخوف، ودخلتُ في جذبة اللوحة، ألبستني من ألوانها لباس كناوة: من الأحمر، والأخضر الذي يميل إلى الاصفرار، والبنفسجي البارد. ألوان اندلقت على ثوبي الأسود، كما هي أرضية اللوحة.
“تحيّرتُ” و”جُذبتُ” مع المعلمين الكناويين الذين يطوفون في اللوحة الرهيبة، التي تفرض عليك الامتثال لوتيرة ألوانها الغامقة القوية. فالأحمر يعزف بقوة ضربات “الكمبري”، والأخضر والوردي يدقّان كصوت “القراقب”، أما الأسود فهو بساط الألم الذي رقصت عليه الريشة رقصة كناوية حزينة. لكن الحزن لم يكسر قوتها ولا أنفتها.
بعد أن عدتُ من الحضرة، وقد أنهكني الاستمتاع، رفعتُ عيني إلى النص، فإذا به عنوان القصيدة: “الرقص مع الجن”. رجعت إليّ من جديد الرهبة. قصيدة كتبت هي الأخرى بلوني الأحمر والأسود، كما هي اللوحة. أليس هذان اللونان رمزًا لعالم الجن؟
نصّ نقل لي خوف الشاعر، الباحث عن الطريق إلى سرّ الجنون، سائلاً عنه الريح. وما رقصة كناوة في اللوحة إلا بحث بدورها عن الجنون. لكن الجواب يأتيه من جنيّ يلوّح بيد من دخان، ويرقص كالتنين. دار بينهما حديث، فيه خوف من شاعرنا وتبجّح من الجني. وصفه في القصيدة بأنه مكتوب بلغة الجمر، وهذا ما ترمز إليه اللوحة بتلك الشعلة الحمراء التي ذكّرتني بلباس مجموعة “المشاهب”، والتي علقت بذاكرتي على أنها نار لهيبة تحرق أعضاء المجموعة، فتخرج من أفواههم قصائد لهِيبة وملهِبة، كما هي هذه القصيدة ولوحة الشاعر عبد الرحمن الغندور.
بعد كل هذا الرعب الأسود الذي عاشه شاعرنا ليلًا، جاء الفجر ليتركه وحيدًا كشبح يرقص على أنقاض اسمه. فبعد رقصة كناوة السوداء مع الجن، يعود إلى هدوئه، كحال اللوحة التي، بعد “جذبة” الأحمر، تعود إلى السكون بألوانها الهادئة رغم قلتها: البنفسجي الخافت والأخضر، ألوان الأمل، الذي لم يضِع في بحيرة اليأس الأسود، ولم تلتهبه جمرة اللهيب الأحمر ودخان الجن.
اللوحة والقصيدة توأمان، لا تستطيع أن تفرّق بينهما. فكما قال ذ. عبد الرحمن الغندور: “كل واحدة هي وحي من الأخرى، وهما معًا من وحي الوحدة”.
وقد ذكّرتني هذه اللوحة وتلك القصيدة بجدّتي رحمها الله، التي كانت تنهاني عن السهر وحدي ليلًا، خوفًا من أن يتلبّسني جنيّ، فهو – حسب اعتقادها – يتربّص بالذين يقضون لياليهم في وحدة. وكانت تنصحني كذلك بألا تستسلم روحي لأهازيج كناوة، الذين كانوا يجوبون دروب حينا وهم يجرّون بقرة ضخمة سوداء. وكانت، رحمها الله، تخرجني من وسط كناوة وبقرتهم، وأنا كلي انتشاء بتلك الطقوس الرهيبة الممتعة، أرتعش من خوف لذيذ.
شكرًا لك، ذ. عبد الرحمن الغندور، على هاتين التحفتين. لقد أخرجتاني من رتابة واقعنا العربي كما صوّره مصطفى حجازي، إلى نشوة الرهبة والحضرة الكناوية. وبعد أن استمتعتُ بتلك الحضرة، سأعود إلى كتاب “تخلّف واقعنا العربي”، وقد نفضتُ عني بعضًا من ثقل روحي.
*كاتبة مغربية مقيمة بفرنسا