انضموا لنا سيسعدنا تواجدكم معنا

انضمام
رأيهم

الرفقة الطيبة:في نعي الأستاذ محمد الصالحي

الراحل العزيز محمد الصالحي في مرثية بليغة (مترجمة عن الإسبانية) بقلم رفيقه في المهنة والحياة، فكري سوسان:

الاستشراق الإسباني في حداد، لكنه أيضًا مدين. اليوم، لا نرثي زميلًا فحسب، بل نكرم أستاذًا كرّس حياته للدفاع بشغف عن التفاهم بين العوالم.

توفي محمد الصالحي، ومعه انقرضت طريقة في أن تكون مثقفًا باتت نادرة يومًا بعد يوم: طريقة يتجلى فيها التقشف، والانضباط، والسخاء، والإنسانية العميقة. وصلت الأخبار كما تصل مثل هذه الصدمات: بصمت، لكن بهزة خفية تمسّ الأعماق. فلم يكن الصالحي مجرد أستاذ في الأدب الأمريكي-الإسباني، ولا باحثًا غزير الإنتاج- هذا ما يمكن أن تقرأه في أي نعي- بل كان شخصًا يسكن الاستشراق الإسباني كما تسكن الشجرة جذورها.

كان أستاذي في جامعة فاس في منتصف الثمانينيات، حين كنا نبدأ باكتشاف تعقيدات العالم الناطق بالإسبانية. ثم التقينا مجددًا كزملاء في بداية التسعينيات بالرباط. كان حينها رئيس قسم اللغة والأدب الإسباني، وقد نلت شرف مساعدته في هذه المهمة لما يقرب من عشر سنوات، حتى عودتي إلى كلية فاس. لقد جمعنا ما هو أكثر من العمل: رؤية مشتركة للمعرفة، وأخلاقيات داخل الفصل، وشغف مشترك بالثقافة

كانت أطروحة الدكتوراه التي أنجزها موضوعها يُعبّر عنه تمامًا: الثقافة والكتابة عند كاتبين بيروفيين: خوسيه ماريا أركييداس ومانويل سكورتسا. كانت توحي منذ ذلك الحين بهوسه بالمزج الثقافي، بالأصوات التي تتجاوز الحدود، بالأدب كفضاء للحوار بين الفردي والجماعي.

عرفناه في ممرات الجامعة، وفي مؤتمرات بأسماء رسمية، وفي مقاهٍ متواضعة، وفي تلك الأحاديث الطويلة بعد الوجبات، حيث لا تتصارع الأفكار بعنف، بل تتبادل بهدوء وحكمة. كان الصالحي يعلّم دون استعراض، ينصت بصمت فعّال، يكاد يكون تبجيليًا. وكان يتحاور باحترام لا ينبع من المجاملة السياسية، بل من قناعة أخلاقية: أن الآخر، لمجرد كونه إنسانًا، يستحق أن يُستمع إليه، حتى في حال الاختلاف.

كان رجلًا متزنًا، لا بمعنى الجفاف، بل بالمعنى العميق. لم يكن في صوته، ولا في حركاته، ولا في أناه شيء صاخب. كان دائمًا أنيق المظهر، كما لو أن انضباطه الخارجي امتداد طبيعي لكيانه الداخلي. شعره الأشعث قليلًا، وعيناه البارزتان- وهما من سماته المميزة – شكّلا هيئة لا تُنسى، تجمع بين الصرامة والحنان، بين شرود الفكر وحدّة الملاحظة. في نظرته – التي كثيرًا ما كانت نصف مغمضة، كما لو أنه غارق في قراءة داخلية دائمة – كان هناك شيء يفرض حضوره من دون أن يسعى لذلك. كان يُدرّس حتى في صمته.

كان محمد الصالحي يمثل جيلًا آخذًا في الاختفاء: جيل المستعربين المغاربة الذين لم يسعوا إلى الشهرة، بل إلى الفهم؛ الذين لم يطاردوا الألقاب، بل العلاقات والمعاني. بين إسبانيا وأمريكا اللاتينية والمغرب، نسج جسورًا خفية لكنها قوية، ولم تكن أدواته سوى الكلمة، والقراءة، والاحترام. لم يستسلم أبدًا لإغراء البلاغة الفارغة: كان رهانه من نوع آخر، أعمق وأكثر دقة. رهان أولئك الذين يؤمنون – حتى ضد التيار- بأن اللغة يمكن أن تكون أرضًا مشتركة بين الثقافات، وأن القراءة، في النهاية، شكل صامت من أشكال المصالحة. برحيله، لا يطفأ مجرد صوت، بل تُطوى طريقة في عيش المعرفة، مليئة بالسكينة، والكرم، والمعنى.

كان بإمكانه أن يبني مسارًا في جامعات مرموقة، لكنه اختار البقاء في موطنه، حيث يمكن للبذرة أن تتجذر. من فاس أو الرباط، رافق أجيالًا من الطلبة بتفانٍ تربوي لا علاقة له بصيحات العصر. لم يكن التعليم عنده مهنة، بل رسالة. لم يكن يُعلّم الإسبانية فقط: بل كان يُعلّم كيف نرى العالم بنظرة جديدة، كيف نصغي إلى همسات الكلمات بانتباه، وكيف نقرأ أركييداس أو فونتيس كما نقرأ طيّات حضارة.

لم يكن الصالحي “مرجعًا” بالمعنى الإعلامي للكلمة. بل كان شيئًا أكثر ديمومة: كان قدوة. قدوة في الانضباط دون تكلف، في العمق دون تعالٍ، في هوية منفتحة، متسامحة، مضيافة. كان حضوره يذكرنا بأن المرء يمكن أن يكون مثقفًا دون أن يفقد تواضعه، ناقدًا دون أن يفقد عدالته، حداثيًا دون أن يخون الجوهري.

اليوم، نبكي من شاركنا صفحة، أو حديثًا، أو نظرة مليئة بالتواطؤ… بل نبكي حياة كاملة تقريبًا. ويبكيه أيضًا – وإن لم يعلموا – طلابه القدامى والجدد، ويذرف عليه الدمع هذا الاستشراق المغربي، الذي بفضل رجال مثله، لم يكن مجرد نشاط أكاديمي، بل كان أيضًا فعلًا أخلاقيًا.

ارقد بسلام، يا محمد العزيز. ليت صوتك الهادئ يواصل مرافقتنا، كهمسة حازمة.

اظهر المزيد

عزيزة حلاق

مديرة مجلة بسمة نسائية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

تم اكتشاف Adblock المرجو وضع مجلة بسمة في القائمة البيضاء نحن نعول على ايرادات الاعلانات لاستمرارية سير المجلة. شكرا