انضموا لنا سيسعدنا تواجدكم معنا

انضمام
ثقافة وفنون

“أولاد الكاريان” من الحي المحمدي إلى باريس

بقلم: مريم أبوري*

كلما هممت بالسفر، اخترت كتابًا يرافقني في الرحلة، سواء بصيغته الورقية أو الإلكترونية. وكان من حسن حظي، في رحلة العودة إلى فرنسا، أن رافقتني رواية “أولاد الكاريان” للكاتب المغربي محمد صوف.

العنوان وحده حمل معي قلب الحي المحمدي، الحي الذي ولدت فيه، بـدرب الكدية، والذي لا يبعد عن الكاريان سوى خطوات. الكاريان الذي ترك فينا، نحن أبناء الحي، بصمة لا تُنسى في شخصياتنا وذكرياتنا، سواء سكنّاه أم لم نسكنه.

كانت لي علاقة بالكاريان من خلال زميلات الدراسة في مدرسة لالة اليقوت وإعدادية المستقبل، اللواتي كنت أزورهن أحيانًا أو يزرنني لمراجعة الدروس. وما زالت ذاكرتي تحتفظ، كلما ذُكر الكاريان، بصور المعاناة المتكررة لسكانه عند كل حريق يندلع فيه. كانت حقائب زميلاتي المدرسية، بما تحويه من أدوات وكتب ودفاتر، أول ما يلتهمه الحريق، إلى جانب ملابسهن القليلة.

ما إن استكملت إجراءات السفر وأوصلني الشاب المرافق إلى قاعة الانتظار، حتى فتحت الرواية. شدّني غلافها: لوحة “فرانزري أمام كرسي منحوت” للفنان إرنست لودفيج، فتاةٌ بكامل زينتها، لكنها لم تُخفِ الحزن في عينيها الكبيرتين، وسط ألوان تتقاطع فيها بهجة الحياة وشجنها، وخلفها طيف لرجل لا ندري أيريد بها خيرًا أم شرًا.

“حين رافقتني البتول في رحلة العودة إلى فرنسا”

بدأت الرواية بمشهد صادم: اختطاف فتاة واغتصابها. منذ اللحظة الأولى، اتضح أن الحكاية ستكون ذات بعد اجتماعي ونفسي عميق. البطلة، البتول، تفقد عذريتها في مكان عرفته جيدًا: خلف مؤسسة الشهداء، التي كنت أزورها بعد أن تحولت إلى مدرسة للأشخاص في وضعية إعاقة – أو كما يسميهم سكان الحي: “المشلولين” – بالقرب من ملعب الطاس ودار الشباب. كم هو مؤلم أن تكتشف أن مكانًا تحبه ربما كان، وربما لا يزال، مسرحًا لوقائع اغتصاب، كما حصل للبتول في فترة تاريخية شديدة الحساسية، قبيل الاستقلال وبعده.

حكاية اغتصاب البتول سترافقنا طيلة الرواية، وكأنها الخيط الرابط لباقي الحكايات التي تؤثث النص: ولد أغطيفة وجبروته، المغتصِب، الطفل سعيد الذي استُغل جنسيًا، الطاهر، والد البتول، الرجل الخائف الذي سيدخل السجن ظلمًا بعد مشاركته بالصدفة في مظاهرة ضد الاستعمار. ليس مناضلًا، بل فقط قادته الأقدار إلى المظاهرة.

ثم هناك “الغريب”، صاحب الحلول، الذي أنقذ البتول من الفضيحة، من مصير أمٍّ عازبة لا يقبل بها لا الجيران ولا الكاريان نفسه. والغريب هو من حال دون أن يُمرَّغ شرفها في وحل الخطيئة، فكان وجوده فارقًا في حياة البتول.

كما تحضر شخصيات أخرى: المقاومون، ممتهنات الدعارة، فاطمة الهبيلة، مينة الحريزية، وعبد الرحمن اليوسفي… ويبقى للأمكنة دور مركزي دون حشو: سينما شريف، سينما السعادة، ملعب الطاس، الشابّو… أما الزمن، فهو أيضًا حاضر بقوة: عام البون…

صحيح أن الكاريان هو البطل الجماعي في الرواية، لكن كل شخصية كان لها دورها في هذا المسرح الحيّ. ركّز الكاتب على الطابوهات والفساد والمشاكل الاجتماعية، التي لم تختفِ حتى بعد الاستقلال بسنوات طويلة.

في رواية قصيرة، فُتحت لنا مواضيع كبرى، حتى ولو بإشارات: المقاومة في كاريان سانطرال، السجن، الفقر، المثلية، الدعارة، الشرف، التحرش (الفقيه)، العنف، الغربة (الغريب)، التضامن (تضامن الغريب مع البتول)، التوبة (توبة ولد أغطيفة)، الأبناء غير الشرعيين…

كُتبت الرواية بأسلوب جميل وسلس يشد القارئ، فلا يتركها حتى ينهيها. وهذا ما حصل لي فعلًا، فقد رافقتني الرواية في الرحلة، كما رافقني انكسار البتول، أول فتاة من الكاريان تحصل على شهادة ابتدائية. فرح بها والدها والجيران وحتى الفقيه، الذي أملى عليه أن تكتفي بهذه الشهادة، وأن تنتظر عريسًا.

رافقتني خيبتها… خيبة المستقبل الذي اغتاله ظلام تلك الليلة، حين خرجت لجلب دواء لوالدها من مغص غامض… ولم تكن تدري أن خطوتها تلك ستكون أول فصول المأساة.

*كاتبة مغربية مقيمة في فرنسا

اظهر المزيد

عزيزة حلاق

مديرة مجلة بسمة نسائية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

تم اكتشاف Adblock المرجو وضع مجلة بسمة في القائمة البيضاء نحن نعول على ايرادات الاعلانات لاستمرارية سير المجلة. شكرا