“الكرنك” … الفعل الذي هزم المؤسسة..

حديث الاربعاء

بقلم: عبد الرفيع حمضي

تابع الرأي العام المغربي ولا يزال، باهتمام لا يخلو من دهشة، الفيديو الذي ظهرت فيه    مداولات داخل هيئة معنية بصيانة وحماية أخلاقيات المهنة.

وما أثار الانتباه ليس مضمون النقاش فقط، بل ما انكشف من فجوة مقلقة بين الوظيفة الأخلاقية للمؤسسة، وبين الفعل الظاهر تحت سقفها. هذه اللحظة الضيقة في المكان والممتدة في الزمان، رغم ما أثارته من تضامن وغضب وتبرير، فهي تستدعي في رأيي قراءة تتجاوز الانفعال، وتتجه نحو تحليل البنية العميقة التي تنتج مثل هذا التدحرج الرمزي وما يجعله ممكنًا.

‏‎القليل من اللقطات التي ظهر للعموم تؤكد أن الخلل ليس قانونيًا ولا إجرائيًا، بل هو خلل في تصور ممارسة “السلطة المهنية “ذاتها. فعندما تتعطل الضوابط الأخلاقية داخل مؤسسة ما وتنفصل الوظيفة عن الفعل، يصبح المشهد أشبه بمفارقة وجودية وبذلك تتلاشى قدسية المؤسسة، خاصة وان الأخلاق تُبنى بالفعل لا بالنصوص الخالية من كل روح.

‏‎إلا أنه منذ ظهور الفيديو، انشغل جزء واسع من النقاش العام ـ عبثيًا ـ بالسؤال الهش: من سرّب؟ ولماذا سرّب؟ ولصالح من؟  وهي مجرد أسئلة إدارية جامدة، تغفل عمدا مساءلة القيم، بذل مواجهة الفعل نفسه. وقد قالت حنّة أرندت يومًا: “الأخلاق تتعلق بما نفعله، لا بمن يكشف فِعْلَنا”. وبالتالي، فإن تحويل النقاش إلى مطاردة تقنية هو عبث محض، لأنه يبرّئ الفعل ويجرّم الكشف عنه، وينقل النقاش من المساءلة الأخلاقية إلى المناورة الشكلية.

‏‎وما يزيد من عمق المفارقة كون أغلبية أعضاء لجنة الأخلاقيات جاؤوا من صحافة “النخبة” ومن الفضاء الفرنكفوني تحديدًا، أي من بيئة مشبعة بثقافة النقاش الهادئ وبقايا “العقلانية الكلاسيكية” التي يرمز إليها ديكارت. غير ان ما ظهر في الفيديو لم يكن لا عقلانية ديكارت ولا كلمات موليير ولا روح المدرسة الفرنسية في الاتزان والسمو. فالرصانة تُبنى بالقيم وليس بالنصوص، والسموّ حفيد الأخلاق، لا عشيق اللغة. وعندما يغيب، يتلاشى كل تبرير ثقافي، ولا يبقى سوى الفعل الحقيقي الذي يُظهر كل شيء.

‏‎إن التجارب الحديثة تذكرنا بمآل الهيئات الأخلاقية حين سقطت القيم داخلها. ففي فرنسا خلال خمسينيات القرن الماضي، فقد المجلس الأعلى للإعلام شرعيته حين تحوّل إلى أداة لتصفية الأصوات المناوئة للحرب في الجزائر، فسقطت هيبته أمام الرأي العام. وفي الولايات المتحدة إبّان المكارثية (McCarthyism)، سقطت لجان الأخلاقيات حين تحولت إلى محاكم للنيات، وحين تماهت مع الانفعال السياسي بدل أن تكون فضاءات لحماية الحرية.

‏‎وعليه، فان ما وقع يعيد طرح سؤال أزلي: هل الصحافة مجرد مهنة لها نصوص ولوائح، أم رسالة لها روح؟ فالمؤسسة حين تفشل في حماية معنى الرسالة، يصبح المجال مفتوحًا لهيمنة الصوت المرتفع. لذلك فالمطلوب اليوم ليس فقط تعديل النصوص، بل إعادة بناء ثقافة المؤسسة من الداخل، على قاعدة أن الأخلاق تُمارس يوميًا ولا تُستدعى حسب المزاج.

كما أصبح يتطلب الأمر لزوماً، عقلنة النقاش المهني، لان ما حدث يظهر خللًا في منظومة القيم المهنية، وكل بحث عن ثغرات في الشكل هو مجرد هروب إلى الأمام.

‏‎وفي الأخير، فإن ما يجعل هذه اللحظة أكثر دلالة هو أنها ليست جديدة في مخيالنا الثقافي، نحن جيل الستينات.

فالفيلم العربي الشهير “الكرنك” (1975) لمخرجه علي بدرخان، عن رواية نجيب محفوظ، لم يكن في جوهره مجرد حكاية سياسية، بل درسًا رمزيًا عن المؤسسة التي تنهزم حين يتغلب الفعل المنفلت على الوظيفة النبيلة، فالمؤسسات لا يهزمها الآخرون… بل ما تفعله هي بنفسها.

Exit mobile version