بقلم: عبد الله الشامي
في أدب القرن العشرين، وقفت روايتان عظيمتان كمرآتين سوداويتين تعكسان أخطر ما يمكن أن تؤول إليه الحضارة الإنسانية: “1984” لجورج أورويل و”عالم جديد شجاع” لألدوس هكسلي. كلاهما رسم ملامح نظام شمولي، لكن بأسلوبين مختلفين، أحدهما يقوم على القمع والخوف، والآخر على الإغواء والمتعة.
في عالم أورويل، تُحكم السيطرة عبر الرعب والرقابة. الدولة تراقب كل شيء: الفكر، المشاعر، واللغة نفسها. الحقيقة تُعاد صياغتها كل يوم، والذاكرة تُمحى لتخدم السلطة. أما رمز هذه السلطة فهو “الأخ الأكبر”، ذاك الكائن الشبح الذي لا يُرى، لكنه حاضر في كل مكان، عين تراقب ولا تُراقَب.
لم يكن “الأخ الأكبر” مجرد زعيم سياسي، بل تجسيدًا لفكرة السلطة المطلقة التي تتغلغل في الوعي حتى يصبح الخوف منها جزءًا من الذات. إنّه حضور يقتل الحرية قبل أن تُولد، ويحوّل الإنسان إلى رقيبٍ على نفسه، يخاف حتى من أفكاره.
بهذا المعنى، لم تكن رواية أورويل مجرد نقد لطغيان سياسي، بل تحذيرًا من طغيان المراقبة الشبحية التي تفرض الولاء عبر الخوف والعار والرقابة الذاتية.
أما في عالم هكسلي، فالطغيان يتخفّى في وجه البهجة. البشر يُصنعون في مختبرات، تُبرمج رغباتهم، وتُخدَّر عقولهم بعقار السعادة “سوما”. لا حاجة إلى السجون، لأن أحدًا لا يرغب في الحرية أصلاً. إنها شمولية المتعة، التي تُطفئ الوعي لا بالعنف، بل باللذة الزائدة والاستهلاك المنظّم.
كلا النموذجين يلتقيان في هدف واحد: إلغاء الفرد الحر، وتحويل الإنسان إلى كائن مُسَيَّر، راضٍ أو خائف، لا فرق. لكن الفرق الجوهري بينهما هو الوسيلة: أورويل حذّرنا من عالم يُمنع فيه قول الحقيقة، وهكسلي حذّرنا من عالم لا يهتم فيه أحد بالحقيقة أصلاً.
في السياسات العربية، يمكن ملاحظة أن السلطة لا تعتمد فقط على القمع الأمني المباشر (كما لدى أورويل)، ولا تكتفي بتنويم الوعي عبر الترفيه والاستهلاك (كما في عالم هكسلي)، بل تجمع بين الاثنين حسب الحاجة والظرف.
واليوم، حين نتأمل واقعنا، يبدو أننا نعيش مزيجًا من النموذجين معًا. لم يختف “الأخ الأكبر”، بل عاد في هيئة رقمية. أصبح خوارزمية تعرف ميولنا، ترسم اهتماماتنا، وتراقبنا عبر شاشات نحملها طوعًا. إنه “الأخ الأكبر” الجديد، الشبح الرقمي، لا يفرض سلطته بالقوة، بل بالإقناع، لا يخيفنا بالسجن، بل يُغرينا بالراحة والاختيار الزائف.
إنها الشمولية الحديثة: دكتاتورية الوعي الموجَّه، حيث لا يُفرض الصمت، بل يُغمر العقل بالضجيج. لم يعد القمع يُمارَس على صوته، بل على رغبته في الكلام. لم يعد يُطارد لأنه يفكر، بل توقف عن التفكير قبل أن يُطارَد.
وهكذا يتحقق الحلم المقلوب لكلٍّ من أورويل وهكسلي معًا، مجتمع خالٍ من الحرية، لأن أحدًا لم يعد يطالب بها.
