هنا تتوقف الصحافة: ثمن الكرامة في غرفة الأخبار

بقلم: خديجة بوعشرين*

على مدى أربع سنوات مضطربة، كانت مهمتي في صحيفة “الصباح” تمثل دراسة حالة معقدة حول مسار المهنة الصحفية. ما بدأ كتجربة واعدة في القسم الفني، وهي مساحة مخصصة للعمل المبتكر والملفات النوعية، تحول تدريجياً إلى مواجهة صريحة مع ثقافة عمل سامة.

لقد كانت قاعة التحرير اختباراً لفرضية مفادها: هل يمكن للاجتهاد الشخصي والجودة المهنية أن تنجو في بيئة تغذيها الغيرة وتدار بالتحيز؟

في سنوات خدمتي، حققت نجاحات مهنية ملموسة. فملفات التحقيق والحوارات التي قمت بها في الشأن الثقافي، مثل عملي الميداني حول “فنانين الروايس” في أكادير، حظيت بتقدير واسع من القراء وحتى من داخل الوسط الفني، وقد نال هذا الملف الفني جائزة أفضل ملف فني أنجز في جريدة الصباح مع مكافأة مالية وقيمتها ثلاثة ألاف درهم. کما حظيت بتقدير من زملاء بارزين في هيئة التحرير. هذا العمل، الذي تطلب جهداً ميدانياً شاقاً، لم يكن مجرد إنجاز شخصي؛ بل كان دليلاً على أن الصحافة الجادة، التي تتطلب السفر والتعمق، لا تزال تحظى بالتقدير. إن العلاقة القوية التي بنيتها مع الفنانين والشخصيات الثقافية أثرت عملي وشكلت درساً مبكراً حول قوة الثقة في التغطية.

لكن خلف هذا الإنجاز، كان يختبئ ثمن باهظ. فالنجاح في بيئة كهذه يفرض مقاومة نفسية لا تنتهي. لقد كانت الاجتماعات الأسبوعية أشبه بمحاكمات، تُدار بروح لا علاقة لها بالتحرير الرصين، بل بنوع من “الانضباط” الصارم الذي يفرضه المدير المسؤول، والذي أراه بعيداً عن أي معيار للصحافة الحديثة. الأسوأ من ذلك، هو الثقافة الداخلية: ممرات الجريدة كانت مسرحاً لتحالفات سرية وصراعات صغيرة، ومحاولات مستمرة لتقويض الزملاء، وهي ممارسات كان المدير يتغاضى عنها، بل ويمنحها شرعية ضمنية. كل هذا أجبرني على التساؤل الصامت حول الكيفية التي يمكن بها لمؤسسة إعلامية أن تُدار وفق هذه المعايير.

لقد بلغت نقطة التحول بعد إعلان مكافآت نهاية العام، لاحظت استثنائي غير المبرر. وعندما سألت عن السبب، لم يكن الجواب متعلقاً بالجودة أو التأخير، بل بسؤال شخصي عن “التفاهم مع زميلة”. هنا، سقط القناع. أدركت أن القرارات لا تستند إلى مقاييس الأداء، بل إلى مناورات داخلية. وحين حاول المدير تبرير موقفه لاحقاً بالحديث عن غياب “السبق الصحفي”، وقدم أمثلة عن الأخبار التي يراها تستحق النشر، حرفيا: قصص من نوع “ستاتي كيضارب مع الداودية في شي حفرة أو فكباريه” حينها تأكد لي حجم الهوّة بين رؤيتنا للعمل الصحفي.

بالنسبة لي، “السبق” هو في كشف العمق والتحليل؛ أما بالنسبة له، فهو مجرد إثارة رخيصة.

لم يكن قراري بالرحيل سهلاً بالنسبة للبعض، وقد قوبل باستغراب عدد من الزملاء. أما بالنسبة لي، فقد كان الاستغراب الحقيقي يكمن في قدرتهم على البقاء. فمطبخ “الصباح” الداخلي كان مثالاً صارخاً لبيئة عمل تفتقر إلى النزاهة المهنية. إن الدرس الذي تعلمته هو أن الكرامة المهنية ليست رفاهية، بل هي شرط أساسي للنجاح والاستمرارية في هذا المجال. وعندما يُفقد هذا الشرط في غرفة الأخبار، هنا تتوقف الصحافة، و تصبح المغادرة واجباً أخلاقياً لا مجرد خيار وظيفي.

*صحفية مغربية مقيمة في هولندا.

Exit mobile version