كلّنا أحيانًا بحاجة إلى أوزوبيس صغيرة داخلنا… مكان نرتاح فيه من صخب العالم ونعيش كما نحن، على سجيتنا.
جمهورية أوزوبيس: حيث يكتب الفن دستور الحياة
كنت أبحث عن وجهةٍ للسفر بعيدة عن الوجهات الاستهلاكية المعتادة، مكانٍ لا يُقاس بجمال فنادقه ولا بعدد نجماته، بل بما يوقظه في الروح من دهشةٍ وفضول.
وفي أثناء تجوالي بين مواقع السفر، المعروضة في العالم الأزرق، قادتني صدفةٌ إلى فيديو صغير لشابة مغربية، تحكي عن تجربة جميلة تغري بزيارة حيٍّ في ليتوانيا يُدعى “أوزوبيس.
كان العنوان جذّابًا إلى حدٍّ لا يُقاوَم: “جمهورية للفنانين… لها دستور بالعربية!”
تساءلت، كما سيتساءل أيّ عابر: كيف يمكن لحيٍّ من أحياء العاصمة فيلنيوس( عاصمة ليتوانيا)، أن يتحوّل إلى “جمهورية” لها رئيس وبرلمان ونشيد وطني ودستور؟
كيف يمكن لحلمٍ فني أن يصبح دولة رمزية، لها علمها وعملتها وسفراؤها المنتشرون في العالم من الشعراء والمبدعين؟
كانت أوزوبيس في الماضي حيًّا فقيرًا ومهجورًا، لكنه تحوّل بفضل مجموعةٍ من الفنانين المحليين إلى مركزٍ نابضٍ بالإبداع والجنون الجميل.
وفي العام 1997، قرّر هؤلاء الفنانون إعلان “استقلال” حيّهم عن الواقع، في خطوةٍ رمزية وساخرة تزامنت مع يوم كذبة أبريل.
نصّبوا شاعرًا رئيسًا للجمهورية، هو موسيقي ومخرج أفلام أيضًا، وشكّلوا حكومةً رمزية وبرلمانًا يجتمع في المقاهي، حيث تُناقش القرارات بقدرٍ من الجدية لا يخلو من الدعابة.
اليوم، يعيش في أوزوبيس نحو سبعة آلاف نسمة، بينهم ما يقارب الألف فنان.
في مساحةٍ لا تتجاوز نصف كيلومترٍ مربع، يتقاسم النحات والموسيقي والرسّام والمجنون فضاءً واحدًا من الحرية المطلقة.
في أحد شوارع فيلنيوس، يمكن للزائر أن يقرأ “دستور أوزوبيس” محفورًا على الجدران، مترجمًا إلى أكثر من أربعين لغة، بينها العربية.
لكن هذا الدستور ليس ككل الدساتير، بل هو “بيانٌ للوجود الإنساني”، يقول ببساطة وعمق:
“لكل إنسان الحق في أن يكون سعيدًا.”
“ولكل إنسان الحق في أن يكون غير سعيد.”
“لكل إنسان الحق في أن يخطئ.”
“ولكل إنسان الحق في أن يفهم… أو ألا يفهم شيئًا.”
“وللكلب الحق في أن يكون كلبًا.”….
موادّ تبدو طفولية في ظاهرها، لكنها تقول كل شيء عن روح المكان: لا أحد يُقصى، ولا فكرة تُدان، ولا سعادة تُقاس بمعايير أحد.
أوزوبيس ليست جمهورية تُدار بالقوانين… بل تُحكم بالفكرة. فكرة أن الفن يمكن أن يؤسس نظامًا أرقى من السياسة، وأن الإبداع قادر على أن يخلق وطنًا معنويًا لأولئك الذين لا يجدون أنفسهم في خرائط العالم الحقيقي.
في عيد استقلالهم السنوي، الموافق للأول من أبريل، توزّع “تأشيرات الدخول” على الزوّار عند الجسر، بينما تعزف الفرق الموسيقية في الشوارع، وتُرفع الأعلام الملوّنة فوق المقاهي والمعارض.
كل شيء هناك يبدو ساخرًا وجادًا في الوقت ذاته، كأنهم يسخرون من الواقع ليجعلوه أجمل.
بعد أن قرأت دستورهم بالعربية وتأملت صور شوارعهم الملوّنة بالمنحوتات والكلمات، أدركت أن “جمهورية أوزوبيس” ليست مجرّد حيّ، بل مزاج حياة.
فما زال هناك في هذا العالم ما يتيح لك أن تكون إنسانًا، شاعرًا، وسعيدًا… على سجيتك.
و هناك جمهوريات صغيرة تولد من الحلم، لتذكّرنا بأن الفن هو آخر أوطان الإنسان.