في لحظة وفاء واعتراف، ألقت الشاعرة والأديبة أمينة الصيباري، كلمة مؤثرة في حق الفنان الراحل محمد الشوبي، الممثل والفنان والشاعر الذي بصم الذاكرة الفنية المغربية بصدق حضوره وجرأة مواقفه، كما بصم قلوب أصدقائه بوفائه وعطائه.
توقفت الكلمات بين شفتيها أكثر من مرة، إذ خانتها الدموع وهي تستحضر ملامحه، فبكت بصمتٍ شفيفٍ لامس القلوب قبل الآذان، وتفاعل معها الحضور بحرارةٍ وامتنان، في مشهدٍ اختلط فيه الشعر بالعاطفة، والذكرى بالحب.
لم تكن كلمتها تأبينًا عابرًا، بل سيرةً وجدانيةً مكثّفة أضاءت جوانب من حياة رجلٍ عاش للفن ومن أجل الفن، وترك أثره الإنساني مضيئًا في كل مكان مرّ به.
لنقرأ معًا:
بداية أود أن أتقدم بعميق شكري وامتناني لإدارة المهرجان التي خصت إحدى وجوهها الأثيرة التي غيبها الموت بلحظة اعتراف أنيقة كهذه.
صدقا، ليس بالأمر الهين استحضار روح المرحوم سي محمد الشوبي في هذه القاعة التي تنبض ببسماته وهذا المهرجان الذي كان يكن له محبة خاصة.
بقبعته كان معنا هنا
بابتسامته أنار الأرجاء هنا،
بحسه الفني العالي
تقاسم معنا بنات أفكاره هنا
بمرحه الطفولي وظله الخفيف
رسم البسمة على وجوهنا.
أي كلمة تليق بروح نبيلة كان حضورها مبهجا في الواقع ومقنعا على الشاشة. هل نبدأ بالمشخص المبدع أم بالإنسان النبيل أو بالمناضل الراسخ في كل محطات بلده؟
عرفت سي محمد على الشاشة متألقا في أدواره السينمائية والتلفزية والمسرحية، ككل المغاربة، بعد ذلك توطدت علاقتي به بمهرجان خريبكة، ثم بتظاهرات الجامعة السينمائية وبمهرجانات عديدة كمهرجان سلا هذا الذي يحتفي به في دورته 18.
كنا نلتقي ونتجاذب أطراف المحبة والفرح… لكن هل تكفي لقاءات عابرة لادعاء المعرفة الحقيقة بالرجل؟ طبعا لا. فحين خلق الله الافتراض وجمعنا فيه تعمقت الصداقات بين الناس، خصوصا الذين تجمعهم أواصر المهن، أوالميولات الفنية والأدبية المشتركة.
طوال 15 سنة وهي المدة التي قضيتها في الافتراض، كان سي محمد يتواصل معنا عبر صفحته الفايسبوكية صباح مساء. إما للإخبار عن عمل جديد وطلب رأي الجمهور في دور أداه، أو لتسجيل موقفه الصريح إزاء نازلة من النوازل أو لتقاسم لحظة شعرية عبر نشر قصيدة أو معزوفة موسيقية.
في الافتراض، يمكننا الحكم على كل واجهات الشخص وتشكيل ملمح متكامل حيت يتقاطع الفنان بالإنسان. كان الشوبي مثقفا متنورا، ينوب عنا بردوده المفحمة للأصوليين كلما استجدت النوازل وانزلقت الحوادث لجر البلد للأسفل. لم يكن يخشى في التعبير عن رأيه وقول الحقيقة كما يراها، لومة لائم.
محطات فارقة جمعتني بالفقيد
من اللحظات التي بقيت محفورة في الروح، أتذكر المحاكمة التي خصه بها المرحوم محمد بسطاوي بخريبكة خلال توقيع باكورة أعماله فنجح الثنائي في إضفاء مسحة من المرح على اللقاء ومسرحة حصة التوقيع بطرقة ذكية وممتعة جعلتنا نخرج من المألوف لنعانق الإخراج الفني للكبار..
محطة أخرى
خلال الحجر الصحي كان الشوبي حاضرا بقوة في مواقع التواصل الاجتماعي، عبر صفحته وكذلك من خلال الحوارات الصحفية العديدة التي أجراها طيلة هذه الفترة، مذكرا بأهمية الفن لتجاوز الخوف والهلع الذي خيم على عالم يتربص به الموت في كل نفس.
اهتدى الشوبي آنذاك إلى طريقة أنيقة ومفيدة لتجزية الوقت الرتيب الذي كان فيه الناس شبه معتقلين في بيوتهم، يلفهم الخوف من الفيروس اللعين ويقتلهم الضجر وهم يتابعون ما يقع على الشاشات المختلفة. هنا تفاجأت أكثر من الجميع هذه المرة باختياره لروايتي “ليالي تماريت” ليتقاسم قراءتها بصوته، وبالبث المباشر طيلة أيام، في مواعيد محددة.
ياااه يا سي محمد أي احتفاء بالصداقة هذا وأي كرم ونبل حظيت به من طرفك؟
ظل الشوبي يقرأ بالمحبة المعهودة فيه إلى أن أكمل الرواية مما مكن جمهورا عريضا من الاطلاع على الكتاب. بعدها اختار رواية أخرى وحفها بجميل عنايته. ثم أخرى إلى مالانهاية من المحبة.
هل كان يقول إن القراءة خير مؤنس في لحظة الأزمة هاته؟ هل كان يفصح للعالم عن مدى محبته لأصدقائه؟ أم هي روحه النبيلة من كانت تلهمه ما يجب فعله في لحظة عصيبة من حياة الكوكب كهاته.
ظل محمد الشوبي الفنان القريب من نبض الشارع يقتسم فرحه وحزنه مع أحبائه بكل شجاعة ودون حسابات ضيقة حتى آخر رمق.
لم يكن الشوبي يشبه أحدا. كان يغرد دوما خارج السرب. يعبر عن قناعاته بكل جرأة وبكل حرية، ينتقد ولا يبالي. الأكيد أن مواقفه كلفته الكثير، لكن أصدقائه الحقيقيون ظلوا على العهد، حتى أنه خلال آخر دور له على الشاشة الصغيرة أحسسنا بأن المخرج عبد السلام لكلاعي كتب دورا على مقاس الشوبي في فيلم “الليل حين ينتهي”، ظهر الشوبي وقد تمكن منه المرض كمن يودع جمهوره من خلال الشاشة الصغيرة ليلقي عليهم التحية واحدا واحدا. أحسب الفيلم كتب وفاء لعرف طوره المخرج في جل أفلامه وهو التحسيس بخطورة بعض الأمراض أو بعض أنواع الإعاقات. ووفاء لصداقته الممتدة لسي محمد.
ودعنا سي محمد بعد أن جسد أدوارا مختلفة ومتفاوتة التعقيد في كل مراحل عمره. من أول الشباب وعنفوان الجسد إلى وهن المرض وقساوة النهايات. الشوبي المهووس بعمله ظل متشبتا به حتى آخر نفس وبقي ملتصقا بجمهوره رغم الوهن الذي رافقه في أواخر أيامه بعد تمكن المرض من جسده المقاوم، أصر أن يتوادع مع جمهوره في لحظة جد مؤثرة خلال الدورة الأخيرة للمهرجان الوطني للفيلم بطنجة حتى ولو كلفه الأمر انتكاسة صحية خطيرة حمل على إثرها للمصحة.
هكذا هو سي محمد، لقننا دروس الفن و المحبة بسيرته العطرة وغرس في أرواحنا صداقته الممتدة فينا.
أيها المبتهج الملتعج البهي
ها أنت تجمعنا على محبتك
وتوقظ الجمال فينا سيرتك
نادرا كنت في شغفك
سخيا في عطائك
ناثرا في الأرجاء بسماتك
سلام عليك حيت أنت في ملكوت الرحمة والنور
سلام عليك في سحاب الله الذي ألهمك الشعر
سلام عليك في أقاصي المحبة ورحابة الود.