الملف الأخضر في عالم الأحمر: مقاومة الانصياع

خطورة الفكر الجمعي على الفرد: حين يصبح العقل أسير الجماعة

دخل المدرّج متأخرًا، كأنه يلج زمنًا لا مكانًا. جلس في آخر الصفوف، وعيناه مسمّرتان على الملف الأخضر فوق مكتب الأستاذة. كان اللون أخضر لا غبار عليه، أخضر كما لو أنه يصرخ بالحقيقة، لكن زملاءه جميعًا باتفاق وتواطؤ مسبق مع الأستاذة، قالوا “أحمر”. التفت إليهم في حيرة، وقلبه يخفق بين ما تراه عيناه شيء وما يسمعه أذناه شيء آخر. وحين جاء دوره للإجابة، تنفّس بتردد وقال: “أحمر”… ليخسر في لحظة صغيرة معركته مع نفسه

هذه الحكاية البسيطة، التي جسدتها تجربة أستاذة جامعية، تختصر ما يسمى بـالفكر الجمعي: ذلك الميل النفسي الذي يجعل الفرد يتنازل عن قناعته ويذوب في رأي الجماعة، خشية العزلة أو السخرية.

خطورة هذا الانصياع أنه يطمس الهوية الفردية، ينشر الخطأ كما تنتشر النار في الهشيم، ويخنق الإبداع، مما يجعل المجتمعات سهلة الانقياد لأي سلطة أو خطاب جماعي.

من هنا تأتي أهمية التمسك بشجاعتنا الفردية. لأن قول “الملف أخضر” وسط من يصرّون على أنه “أحمر”، ليس مجرد تمرين على الصدق، بل هو إعلان عن حياة واعية، وإضاءة طريق لمن سيجرؤون على الاختلاف بعدنا.

لقد صاغ عالم النفس الاجتماعي الفرنسي غوستاف لوبون، مصطلح “عقلية القطيع” في أواخر القرن التاسع عشر، واعتبر أن الجماهير حين تنصاع للعاطفة وتغيب عنها العقلانية، قد تتحول إلى قوة مدمرة. وقد استند هتلر إلى هذه النظريات في دعايته لتعبئة الجماهير رغم فظائعه. غير أن إدراك خطورة قدرة فرد واحد على توجيه الجماعة لم يتبلور بشكل واضح إلا بعد الحرب العالمية الثانية.

وفي الخمسينيات، أثبتت تجارب عالم النفس سولومون آش، أن 75٪ من الأشخاص قد يقدّمون إجابة خاطئة لمجرد مسايرة الآخرين وتجنب وصمة “الاختلاف”.

وبالمثل، يستخدم المؤرخون مفهوم “عقلية القطيع” لشرح ما حدث أثناء، محاكمات ساحرات سالم، تعود إلى سنة 1692 في ولاية ماساتشوستس الأمريكية؛ حيث ادعت مجموعة من الفتيات أنهن ممسوسات من الشيطان، ووجّهن اتهامات عشوائية لنساء من القرية. ومع انتشار الذعر الجماعي، اتُّهم أكثر من 200 شخص بممارسة السحر، وحُكم على 20 بالإعدام، رغم غياب الأدلة. لقد كان الخوف من مخالفة الأغلبية أقوى من صوت العقل، فاستسلم الناس للانصياع بدلًا من التشكيك.

وإذا كان الماضي مليئًا بأمثلة على خطورة الانصياع للجماعة، فإن الحاضر لا يقل تعقيدًا. ففي زمن غياب حرية التعبير وسيادة الإعلام الموجَّه، تتجلى “عقلية القطيع” بأشكال جديدة أكثر خطورة. حين تتحكم قلة في تدفق الأخبار وتفرض رواية واحدة للأحداث، ينزلق الجمهور إلى تبنيها دون مساءلة، إما خوفًا من العقاب أو بسبب غياب البدائل.

حتى وسائل التواصل الاجتماعي، التي يفترض أن تكون فضاءً حرًا، تحولت إلى مسرح واسع لعقلية القطيع. يكفي أن يصعد هاشتاغ أو “ترند” حتى يتبعه الملايين، يهاجمون أو يدافعون أو يرددون الشعارات نفسها، غالبًا من دون تحقق أو تفكير نقدي.

إن “اللايك” و”المشاركة” في كثير من الأحيان أصبحا أشبه بتصويت جماعي يضغط على الفرد لينخرط فيه، حتى وإن كان داخليًا غير مقتنع.

الأخطر أن التحكم في الرأي العام اليوم لا يعتمد فقط على القمع المباشر، بل على “التلاعب بالعاطفة”: الخوف، الوطنية، الدين… كلها أدوات تُستخدم لدفع الناس إلى الاصطفاف وراء خطاب واحد. وهكذا يُخنق التنوع الفكري، ويُقصى كل صوت مختلف تحت وطأة التهميش أو الاتهام بالخيانة أو العمالة.

إن “عقلية القطيع” لم تعد مجرد مفهوم في كتب علم النفس أو عبر حوادث التاريخ؛ إنها واقع نعيشه يوميًا، في السياسة والإعلام، بل وحتى في فضاءات التواصل التي نزعم أنها “حرة”. والمأساة الكبرى أن الناس قد يظنون أنهم يختارون بحرية، بينما هم يكررون ما وُضع لهم ليقولونه.

لكن الأمل حاضر دومًا؛ فالتاريخ لم يُصنع بأصوات الذين كرروا ما قاله الآخرون، بل بأولئك الذين امتلكوا الشجاعة ليقولوا الحقيقة في وجه الأغلبية. الحرية تبدأ من الداخل، من ذلك الصوت العميق الذي يرفض أن يُسكت.

لذلك، فإن مقاومة هذا الفكر تبدأ من الداخل: من وعي الفرد بحق السؤال، وبالشجاعة على قول “الملف أخضر” حين يكون أخضر فعلًا، حتى لو أصرّ الجميع على أنه أحمر. إنها مسؤولية أخلاقية قبل أن تكون مجرد موقف شخصي، لأنها قد تحدد مصير مجتمع كامل.

Exit mobile version