انضموا لنا سيسعدنا تواجدكم معنا

انضمام
رأيهم

  كائنات الحشود الحائرة

بقلم: سعيد الباز

على غير هدى تسير.

على غير هدى تخاف الفراغ فتقتل الوقت.

وتخاف الموت فتقتل الحياة.

لا تحرق الكتب في محرقة نازية بين الحشود في الساحات العامّة، لكنّها تعدم الكتاب رمزيا تنكّل به وتزدريه، فتحذفه من مفردات حياتها وتلغيه بالمرّة من كلّ اللغات. لا تحرّم الفنون من مسرح و موسيقى و تشكيل وسينما… لكنّها تعمل جادّة لتختفي عن ناظرها لتتضاءل وتصغر حتّى تصبح كائنات مجهرية تحتاج إلى أعتى المكروسكوبات دقّة لكي تنعم بشيء من الظهور الخافت.

تُمِيتُ الخبر من أجل أن تحيى الإشاعة، و كالقمصان الملوّنة تستبدل السياسة بالنميمة  و تنتعل الأحذية الثقيلة للإقصاء والنكران، و كالمصاب بالهوس القهري تجسّ معاصم الأحداث بحثا عن ما يشبه متربّصا خلف الستائر. تعرف الحقيقة الساطعة كواضحة النهار و مع ذلك لا تصدقها، تشكّك في الخرافة الأكثر غباء و مع ذلك كيقين العجائز تصدقها.

تشدو بالحرية و التفرّد وبحبوحة الاختلاف، و مع ذلك بدعوى الطمأنينة وسلامة النفس من صداع الرأس، تنزوي مثل نعامة وحكايتها مع الرمال تدسّ رأسها خانعة في أحقر قطيع تائه في الفلوات. زرافات زرافات بألبسة رياضية تحضنها أماسي أيام الآحاد في أرصفة المقاهي و الممرّات الملتوية لشوارع المدينة وبين مكالمة طويلة وأخرى تلعن في السرّ يوم الاثنين و ما تلاه من أيّام.

درست في سالف الأزمان قولة “اعرف نفسك” لصاحبها ذلك الشيخ اليوناني من أثينا الذي رفع أصبعه عاليا  وفي يده الأخرى قدح السم مفضلا الموت استجابة لحكم المدينة، لكنها فضلت أن تسير عمياء وعلى غير هدى… أن تتجاهل نفسها، وأن تهرب منها بعيدا مثل أيّ عدّاء أثيوبي عنيد. ت

تماثل كائنات الحشود الحائرة مثل عيدان الكبريت أحادية في التفكير نمطية في السلوك، و مثلها سريعة العطب ما أن تشتعل في برهة من الزمن حتّى تكون أكثر استعدادا إلى الارتماء في أقرب مرمدة أو سلّة نفايات. تؤمن بالتغيير وتقول جهرا إنّها مع  “نيتشه” بأنّ الحيّة التي لا يمكن لها أن تغيّر جلدها يجب أن تموت، و تصرّح بيقين ظاهر أنّ “هيراقليطس” كان على حقّ لما قال:”إنّك لا تنزل النهر مرّتين” فيما هي تسبح في بركة راكدة صباح مساء. تخشى التغيير و تحافظ على ما هو كائن على حساب ما سيكون و تحكم الإمساك بالماضي على حساب المستقبل إمساك الأعمى في دياجير الظلام الدامس، أو كأيّ راكب حافلة متهورة يتشبث بمقابض اليد خشية سقوط محتمل.

بعيدا عن قلق الوجود وأسئلته الحارقة تنشغل كائنات الحشود الحائرة بالثرثرة و الاهتمام بالآخرين تلوك سيرة بعضها البعض والنكات الرائجة مبدّدة الوقت و سأمها الوجودي بجرعات متفاوتة الحجم خشية سقوط هذا البناء الهشّ والمتهاوي أصلا. أثناء تعبيرها عن المواقف وإبداء الرأي في الحياة و المجتمع تنحو منحى التعميم فيما يشبه عمى الألوان ليس في رصيدها سوى لونين إمّا أبيض أو أسود ويمكنهما أن يتبادلا المواقع دون أن تفسد رقعة اللعب.

عند إصدار الأحكام فهي تميل دوما إلى كلّ ما هو جاهز وقطعي غير قابل لإعادة النظر، وأيّ مراجعة أو محاججة له يعتبر إهانة شخصية و إعلانا عن عدوان صريح يقتضي الصدّ والردّ العنيف. لأنّ ما تسمّيه أنت بالموضوعية أو بالنسبية هو في عرفها  منطق فاسد و سقم في التفكير. هكذا تتسيّد المجالس و المنتديات زادها قليل من نظرية المؤامرة لتفسير الخيبات و الهزائم فالجهل أبو الرّيبة كما قال المؤرخ “جيبون”، أو عقدة تبخيس الذات لتعليل التخلف أو تقدّم الآخر، وكثير من تضخّم الذات لتأكيد الهوية والإنتماء، كلّ هذا الخليط المتناقض يشكّل آلية عجيبة في التفكير. ها هي على غير هدى تسير كائنات الحشود الحائرة في غيبوبتها عن الوجود و العالم الراهن ترفع شعارها: “لسنا بعد في هذا العالم، ونفتخر”.

 

اظهر المزيد

عزيزة حلاق

مديرة مجلة بسمة نسائية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

تم اكتشاف Adblock المرجو وضع مجلة بسمة في القائمة البيضاء نحن نعول على ايرادات الاعلانات لاستمرارية سير المجلة. شكرا