
بقلم: عبد الرفيع حمضي
لم يكن الهجوم الإسرائيلي الأخير على دولة قطر حدثاً عابراً في سجل الاعتداءات الدولية. فاستهداف بلد يمارس دور الوساطة، ويُعتبر حلقة وصل بين أطراف متصارعة، يشكل سابقة خطيرة في الأعراف السياسية. فتاريخ العلاقات الدولية، كما الديانات الكبرى، يكرس مبدأ الوساطة كجسر للحلول، ويمنح الوسيط مكانة رفيعة باعتباره الشخص أو الجهة أو الدولة التي تفتح الطريق نحو التهدئة حين تُغلق أبواب الحوار. كل الديانات باركت الوساطة ورعتها باعتبارها قيمة أخلاقية وروحية قبل أن تكون أداة سياسية.
لكن ما أقدمت عليه إسرائيل ضد قطر يتجاوز البعد العسكري أو المادي. لم تُقصف بناية فقط، ولم تُهدم جدران وحوائط، بل ما تم قصفه هو قيمة إنسانية أساسية، قيمة الوساطة، التي ليست ملكاً لقطر ولا لأي دولة بعينها، لكونها رصيد أخلاقي للبشرية جمعاء، غايتها حل النزاعات وتجنب الحروب ومآسي الإنسانية. وبالتالي فقصفها هو إبادة لفكرة الحل .
منذ ربع قرن، استفدت من عدة دورات تكوينية أشرفت عليها مؤسسة Search for Common Ground ذات المقر الاجتماعي بواشنطن. حينها علمنا الكبار أن الوساطة ليست مجرد تقنية للتفاوض، بل ثقافة قائمة على الاحترام والحياد. فالوسيط لا يدخل ليحكم، بل ليُيسّر، ولا يناقش القناعات والمواقف، بل يدبر المصالح. مع التأكيد ان الأطراف المتنازعة، حتى في أشد حالات الصراع، فهي تنظر إلى الوساطة كفضاء آمن، وتقدّسها وإن فشلت في الوصول إلى حل نهائي.
وساطة تُبنى على الثقة، وتُمارَس بروح المسؤولية، ويُنظر إليها كقيمة أخلاقية بقدر ما هي أداة سياسية.
في هذا السياق، يبرز مفهوم “القوى الوسطى ” وهي دول لا تملك ثقل القوى العظمى، لكنها تؤثر بفضل دبلوماسيتها واعتمادها على القوة الناعمة وقطر تنتمي إلى هذه الفئة، إذ سخّرت مواردها وموقعها لبناء سمعة كوسيط مؤثر في النزاعات المعقدة.
ومن منا لا يتذكر الدور البارز لحمد بن جاسم، وزير الخارجية ورئيس الوزراء السابق، الذي جعل من الدبلوماسية القطرية لاعباً أساسياً في ملفات إقليمية ودولية معقدة.
إن الأخطر فيما فعلته إسرائيل أنها لم تستهدف قطر وحدها، بل استهدفت كل المنظومة الدولية. فالأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة بُنيت أصلاً على مبدأ الوقاية والوساطة في النزاعات قبل أن تتحول إلى حروب. فعندما يصبح الوسيط هدفاً مستباحا، فإن ذلك يعني عملياً نزع الشرعية عن كل جهد اممي وتقويض النظام الدولي نفسه. ومن هنا لا يُستغرب، إذا استمر هذا المنطق العدواني، أن نرى غداً قصفاً لغرفة مجلس الامن بالأمم المتحدة في نيويورك، باعتباره رمزاً لأعلى وساطة دولية جماعية عرفها العالم.
ابن خلدون أشار منذ قرون إلى أن السلم بين القبائل لا يتحقق، إلا بوجود “الوجهاء” القادرين على التوسط. والتاريخ علمنا أن المجتمعات لا تنجو من نزاعاتها ومن حروبها إلا عبر وسطاء.
فمن الوجهاء في القبائل القديمة إلى “الدول الوسطى” في النظام الدولي الحديث. وبالتالي فإن ما قامت به إسرائيل هو “إرهاب دبلوماسي “، يرمي إلى تدمير أدوات السلم الدولي وتجريم فكرة الوساطة ذاتها. ولذلك، فإن الدفاع عن الوساطة لم يعد ترفاً سياسياً، بل هو دفاع عن النظام الدولي برمته، وعن آخر ما تبقى من القيم الأخلاقية في العلاقات بين الدول.