فريدريك نيتشه… اغتسل بالماء القذر لتظل نقيًا

قد يبدو من الغريب أن يُذكر اسم فريدريك نيتشه في ركنٍ يحتفي بالذاكرة الإنسانية، باسمها الهادئ. فهذا الفيلسوف الألماني كان عاصفة أكثر منه ذكرى، وكان شغبًا فكريًا لا يهدأ، هدم الكثير من “اليقينيات” الأخلاقية والدينية التي سكنت العقل الغربي طويلاً. ومع ذلك، فإن نيتشه لم يذهب. بقي، وظل اسمه يتوهج، لا بوصفه معلّمًا، بل كمحرّض كبير على التفكير، والشك، والتجاوز.

في واحد من أشهر أقواله المأخوذة عن كتاب هكذا تكلّم زرادشت، يكتب نيتشه:

“من يُريد أن يظل نقيًا بين البشر عليه أن يعرف كيف يغتسل بالمياه القذرة أيضاً.”

قد تبدو العبارة صادمة، جارحة حتى، لكن مثلها مثل كثير من أقوال نيتشه، لا تُفهم إلا إذا قرأنا ما بين الكلمات، وتركنا للمعنى أن يلسع وعينا قبل أن يداعبه.

ففي عالمٍ ملوثٍ بالأقنعة، لا يكون النقاء بالانسحاب، بل بالصمود. نيتشه لم يكن يروّج للانغماس في الفساد، بل كان يقترح شجاعة أخلاقية من نوع آخر: أن نعيش وسط العالم كما هو، نلامسه دون أن نصبح نسخة عنه. أن نعرف قذارته، دون أن نفقد قدرتنا على الفعل النظيف. فالاغتسال هنا مجازي، والنية فيه تطهير لا تلوّث

ينتقد نيتشه ضعف الإنسان الحديث، الذي يهرب من المعاناة، ويتوهم بأن السعادة حالة دائمة. بينما يرى هو أن الألم، والتحدي، والانكسار، ليست نواقص في التجربة الإنسانية، بل ضرورات تكشف عن قوتنا المحتملة. ففي إرادة القوة، يقول:

“ما هو مكمن الضعف لدى الإنسان؟ هو عدم إدراكه أن الوجه السيء للأشياء ضروري!”

بهذه الروح، تصبح فلسفة نيتشه نوعًا من “التشخيص القاسي”، لكنه صادق. فهو لا يزين الحياة ولا يُخدّرنا بتعاليم طمأنينة، بل يوقظنا على حقيقة أن الحياة، بكل تناقضاتها، هي معركة علينا أن نخوضها بوعي لا بوهم.

هو لا يكره الضعفاء، بل يكره تواطؤهم مع ضعفهم، يكره أولئك الذين يطلبون النقاء دون أن يخوضوا الاختبار. من هنا تأتي فلسفة “حبّ القدر” (Amor Fati)، التي هي دعوة مفتوحة إلى احتضان كل ما تقدمه الحياة، حتى الشوك، حتى السقوط.

ما يميّز نيتشه عن كثير من الفلاسفة، أنه لم يكن يكتب من برج عاجي، بل من قلب الجرح. ولهذا فإن فكره لا يُقرأ للطمأنينة، بل يُقرأ للاستفاقة. ولهذا أيضًا، فإننا حين نعيد استحضاره اليوم، فليس فقط لما قاله، بل للطريقة التي أرادنا أن ننظر بها إلى أنفسنا، وأن نصمد.

في زمن يتغذى فيه الخطاب العام على التجميل الزائف، يبقى نيتشه بمثابة صوت مختلف يقول لنا:

“لا تهربوا من الواقع، حتى حين يبدو قذرًا، فالنقاء الحقيقي يُختبر هناك، لا في الانعزال.”

ذلك هو نيتشه الذي لا يُنسى: فيلسوفًا لا يهادن، ولا يعلّمنا كيف نكون صالحين، بل كيف نكون أقوياء، نبلاء، حتى في لحظات السقوط.

Exit mobile version