بول باسكون… سوسيولوجي المجتمع المركّب..

بول باسكون… من اكتشاف “المجتمع المركّب” إلى نقد السلطة..

من بين الأسماء التي طبعت علم الاجتماع النقدي في المغرب، يبرز اسم بول باسكون (1932–1985) بوصفه الباحث الذي صاغ مفهومًا مفتاحيًا ظل حاضرًا إلى اليوم: “المجتمع المركّب”. لم يكن يرى المغرب كمجتمع يسير بخط مستقيم نحو الحداثة، بل كنسيج معقّد يتعايش فيه القبلي التقليدي مع المخزني السلطوي والرأسمالي الحديث في آن واحد. هذا التوصيف جعل منه مرجعًا أساسيًا لفهم التحولات الاجتماعية المغربية بعد الاستقلال.

وُلد باسكون في فرنسا، لكنه لم يأتِ المغرب كخبير أجنبي عابر، بل اندمج بعمق في نسيجه الاجتماعي. عاش في القرى بين الفلاحين، خصوصًا في نواحي مراكش وسوس، وشاركهم تفاصيل حياتهم اليومية. هذا الاحتكاك الميداني جعله مختلفًا عن غيره من الباحثين، فقد كان يكتب من قلب التجربة لا من أبراج الجامعات.

أبحاثه ركّزت على “سوسيولوجيا العالم القروي”، حيث كشف كيف أن الأرض والسلطة والاقتصاد تشكّل مثلثًا يحدد مصائر الناس. في كتابه المرجعي “الملكية والإيديولوجية” (Le Haouz de Marrakech) ، قدّم تحليلًا دقيقًا للبنية الزراعية وعلاقتها بالسلطة. ومن أبرز خلاصاته أن التفاوتات لم تكن مجرد مسألة اقتصادية، بل نتاج منظومة من العلاقات السلطوية والتقليدية المتجذّرة.

كما أكّد باسكون أن التنمية في المغرب لا يمكن أن تُختزل في مشاريع تقنية أو خطط اقتصادية، بل تقتضي “تفكيك علاقات الهيمنة” وبناء عدالة اجتماعية. ورأى أن التحولات التي عرفها المغرب بعد الاستقلال ظلت غير مكتملة، لأن البنيات التقليدية استمرت في إعادة إنتاج نفسها داخل خطاب حداثي.

فكره النقدي جعل منه امتدادًا عربيًا لمدارس فكرية مثل فرانكفورت والماركسية الميدانية، لكنه ظل وفيًا لخصوصية السياق المغربي. لم يكن يهدف إلى إنتاج معرفة أكاديمية فقط، بل إلى جعل السوسيولوجيا وسيلة لفهم المجتمع وتغييره.

ما ميّز باسكون هو قناعته بأن السوسيولوجيا ليست علمًا محايدًا أو مراقبة باردة، بل أداة لفهم علاقات السلطة والتفاوت وتفكيكها. لذلك اتخذ موقعًا نقديًا صريحًا، متجاوزًا الحياد التقليدي الذي يكتفي بالتوصيف. بالنسبة إليه، كان العالم القروي نافذة لفهم المغرب كله: الأرض بما تحمله من تاريخ الملكية، السلطة بما تفرضه من هرمية، والاقتصاد بما يكرّسه من تفاوتات.

في دراساته الميدانية، خلص باسكون إلى عدد من الأفكار المركزية:

أن البنية الاجتماعية المغربية تتشكل من تعايش أنماط متعددة في آن واحد: قبلي تقليدي، مخزني سلطوي، ورأسمالي حديث، وهو ما سماه بـ”المجتمع المركّب”.

أن استمرار التفاوتات في القرى ليس مجرد مسألة اقتصادية، بل نتاج شبكة من العلاقات بين السلطة المحلية، الملكية الزراعية، والتقاليد الاجتماعية.

أن التنمية لا يمكن أن تتحقق فقط عبر مشاريع تقنية أو اقتصادية، بل تحتاج إلى تفكيك علاقات الهيمنة وبناء عدالة اجتماعية حقيقية.

أن المجتمع المغربي بعد الاستقلال عاش تحولات غير مكتملة، حيث بقيت أنماط السيطرة التقليدية حاضرة رغم تبنّي خطاب حداثي.

رحل بول باسكون في حادث سير مأساوي سنة 1985، لكن إرثه ما يزال حاضرًا في الجامعات المغربية وفي النقاشات حول التنمية والعدالة. لقد ترك بصمة لا تُمحى لأنه جسّد الباحث الملتزم الذي عاش كموضوع بحثه، وصاغ من خلال تجربته مفاتيح لفهم تعقيدات المجتمع المغربي.

إن استحضار اسم باسكون اليوم ليس مجرد وفاء لذكراه، بل تذكير بأن السوسيولوجيا الحقيقية تبدأ من الميدان، وأن فهم المجتمع المغربي يمر بالضرورة عبر تعقيداته وتشابكاته، أي عبر ما أسماه هو نفسه: “المجتمع المركّب”.

Exit mobile version