لينغ يو تانغ: دع الحياة تبتسم لك
في زمنٍ تغزوه الصراعات الداخلية، ويضيع فيه الإنسان بين طموح لا ينتهي وقلق لا يهدأ، تخرج إلينا أصوات من أعماق الفلسفة الشرقية لتذكّرنا بجوهر الحياة. أحد هذه الأصوات النادرة هو الفيلسوف والكاتب الصيني لينغ يو تانغ (1895-1976)، الذي جمع بين الفكر الصيني التقليدي والحس الإنساني العميق، فكتب عن السعادة والطمأنينة بلغة بسيطة، لكنها نافذة إلى القلب.
ولد يو تانغ في جنوب الصين، وتعلّم في الولايات المتحدة وأوروبا، لكنه ظل وفيًا لجذوره الفكرية الكونفوشيوسية والطاوية. واشتهر بكتابه “أهمية العيش” (The Importance of Living)، الصادر سنة 1937، والذي أصبح أحد أكثر الكتب تأثيرًا في القرن العشرين، إذ حمل دعوة ناعمة إلى إبطاء الإيقاع، وتذوّق الحياة، والانفلات من أسر الجدية المفرطة.
وقد يبدو غريبًا أن تجد في حكم هذا الفيلسوف القادم من الشرق الأقصى صدى لصوت آخر خرج من بلاد فارس قبل قرون، هو عمر الخيام، الذي قال في رباعياته:
لا تشغل البال بماضي الزمان
ولا بآتي العيش قبل الأوان
واغنم من الحاضر لذاته
فليس في طبع الليالي الأمان
رباعيات الخيام التي أعادت أم كلثوم غناءها بلغة العصر، منحتنا مدخلًا عاطفيًا إلى الفكرة نفسها: عِش الآن، استمتع الآن، فالغد ليس مضمونًا.
أما يو تانغ، فبفلسفة مختلفة في المظهر، متشابهة في الجوهر، يوصينا لا بمزيد من الإنجاز، بل بمزيد من الهدوء، وبالتلذذ بالحياة، وبالحكمة البسيطة التي تشبه نسيم صباحٍ خفيف يداعب الروح.
لا يكتب يو تانغ نصائح تقليدية، بل يقدم خلاصة حياة، أقرب إلى وصايا وداع رقيقة من إنسان عاش وفكر وتأمل، ثم قرر أن يهمس لنا: توقف عن الجري، فالحياة لا تنتظر، لكنها أيضًا لا تطارد أحدًا.
إنه يدعونا إلى أن ننفق المال فيما يسعدنا لا فيما يثقل كاهلنا. أن نعيش اللحظة، لأن الغد قد لا يأتي. أن نستمتع بما نملك بدل اللهاث وراء ما لا نملكه. أن نحب أحفادنا ونضحك معهم، لا أن نستهلك صحتنا لنورّثهم ثروة لن يتذكرونا بها.
يشير بذكاء إلى وهم المقارنات القاتل: لا تقارن نفسك بغيرك، لا في الشهرة ولا في المال ولا حتى في الأبناء. فلكل إنسان مساره، كما لكل زهرة فصل تزدهر فيه.
لا شيء عنده أكثر غباء من تضييع العمر في الشكوى أو الركض وراء الكمال. لا أحد كامل. ولا أحد خالد. وحتى من يبدون في أوج نجاحهم، يخفون هشاشتهم تحت طبقات من التجميل أو التفاخر.
يو تانغ ينصحنا أن نبحث عمّن يقدّرنا، فإن لم نجد، فلا بأس أن نستمتع بخلوة صافية خير من صحبة سيئة. أن نُضحك أنفسنا، لأن البهجة ليست ترفًا، بل دواء، و”يوم بلا سعادة هو يوم مفقود”.
وفي أكثر أفكاره شفافية، يذكّرنا أن الوقت والفرص كالنهر، لا يمكن لمسه مرتين. فما لم نعيشه اليوم، لن نعيشه غدًا.
أما عن الإيمان، فهو لا يقدّمه كعقيدة مغلقة، بل كنافذة روحية مفتوحة: “آمن بالله مهما كان مفهومك عنه، واستمتع بالحياة، فلن يشكرك أحد بعد رحيلك.” إنها دعوة لتدين خفيف على القلب، متصالح مع الذات والعالم.
فكرة يو تانغ عن الله تلتقي مرة أخرى بفلسفة الخيام، وهو يردد بروح مشابهة: “إن لم أكن أخلصت في طاعتك، فإنني أطمع في رحمتك…” كلمات تفيض بالتسليم والتواضع، لا تختلف كثيرًا عن وصايا يو تانغ حين يدعونا للإيمان كما نراه، وللاستمتاع بالحياة القصيرة جدًا.
فما بين سطور الخيام ووصايا يو تانغ، تمتد خيوط من الحكمة العابرة للثقافات، تهمس لنا بأن الحياة لا تُقاس بعدد الإنجازات، بل بقدرتنا على أن نحب ونفرح ونُسامح ونعيش بسلام داخلي.
وربما لا نحتاج في النهاية إلى فلسفات معقّدة، بل إلى أن نُشعل قنديل البهجة كل صباح، ونمضي في يومنا كما لو كان الأخير… لكن بامتنان العارف، لا بخوف العابر.