روز اليوسف:رائدة الكلمة وأسطورة الصحافة النسائية في العالم العربي

 روز اليوسف: المرأة التي أنجبت مجلة وابنًا خلد اسمهما التاريخ

لماذا روز اليوسف في ركن “نساء ملهمات”؟

حين نفكر في نساء تركن بصمة لا تُمحى في تاريخ المجتمع والثقافة، لا بد من ذكر روز اليوسف، كرمز للجرأة والتحدي والإبداع. لم تكن مجرد امرأة عادية في زمن كانت فيه فرص النساء ضئيلة، بل كانت رائدة حقيقية، كسرّت الحواجز التقليدية وأعادت تعريف معنى الصحافة النسائية في مصر والعالم العربي.

من خلال تأسيسها لمجلة تحمل اسمها، جعلت صوت المرأة يسمع عاليًا في ساحات السياسة والفكر والثقافة، وقدمت نموذجًا يحتذى به في استقلالية الرأي، وحرية التعبير، والدفاع عن حقوق المرأة. قصتها تمثل رحلة ملهمة لكل امرأة تسعى لتحويل حلمها إلى حقيقة، وللكتاب والصحفيين الذين يؤمنون بأن الكلمة هي أقوى أدوات التغيير.

البداية والنشأة

جاء في بعض المصادر، أن روز اليوسف ولدت سنة 1899 في لبنان، ثم انتقلت إلى مصر حيث بدأت مسيرتها كممثلة مسرحية. عملت مع فرقة جورج أبيض ثم يوسف وهبي، وبرزت كممثلة موهوبة، لكن عشقها للكلمة وحبها للقضايا العامة قادها إلى عالم الصحافة، فكان التحول الكبير.

سنة 1925، أسست مجلة “روز اليوسف” التي حملت اسمها، في خطوة غير مسبوقة لامرأة، ليس في مصر فحسب، بل في العالم العربي.

 لكن، كيف أصبح اسمها “روز اليوسف”؟

قيل إن اسمها الحقيقي “بيزا فاخر فهمي”، وُلدت بطرابلس لأسرة مسيحية من أصول تركية – لبنانية، بعد وفاة والدتها وانتقالها في سن مبكرة إلى مصر، تبناها صديق والدها الذي كان مخرجًا مسرحيًا. هناك بدأت علاقتها بعالم المسرح، وشاركت في عروض فنية، خاصة ضمن فرقة “عزيز عيد”.

خلال هذه الفترة، ولكي تناسب شخصيتها الفنية الجديدة على خشبة المسرح، اقترح أحد المسرحيين المقربين تغيير اسمها الفني، فوقع الاختيار على “روز اليوسف”:

روز: تعني “الوردة” باللغة الفرنسية، دلالة على النعومة والجاذبية.

اليوسف: نسبة إلى عائلة الشخص الذي تبناها لاحقًا ودعمها مهنيًا، أو تكريمًا لممثل مسرحي بارز كان مقربًا منها.

وهكذا وُلد هذا الاسم المركب الذي صار علامة صحفية خالدة، يسبق صاحبته في قاعات التحرير، ويدوي على أغلفة المجلة التي أسستها.

لكن تبين أن بيزا فاخر فهمي، اسم مستعار لصحفي مصري يدعى فهمي النقراشي، وهو من أوائل الكتاب الذين عملوا في مجلة “روز اليوسف”.

ظهرت رواية أخرى تقول إنها وُلدت في بيروت عام 1897 باسم فاطمة بنت محيي الدين اليوسف، لعائلة مسلمة من أصول تركية. لكن القدر شاء أن تبدأ حياتها مأساوية، إذ فقدت والدتها بعد ولادتها مباشرة، واضطر والدها التاجر إلى الرحيل، تاركاً ابنته الرضيعة في رعاية أسرة مسيحية اعتنت بها وسمّتها “روز”، الاسم الذي ستعرف به لاحقًا في سماء الفن والصحافة.

مرت سنوات الطفولة في كنف العائلة البديلة، التي لم تخبرها بحقيقة نسبها حتى بلغت العاشرة. عندما خططت الأسرة لإرسالها إلى أمريكا مع صديق مقرب، شعرت روز الصغيرة بأنها تُسلّم لمن لا تعرفه، فكان ذلك أول شرخ عاطفي في حياتها. حينها، قررت مربيتها أن تصارحها بالحقيقة:

    “أنتِ لستِ روز، بل فاطمة، وأنتِ مسلمة”.

تظاهرت فاطمة/روز بالموافقة على الرحيل، لكن عند مرور السفينة بمدينة الإسكندرية، انتهزت الفرصة وهربت إلى شوارع المدينة المصرية. هناك بدأت فصلاً جديدًا من حياتها، حين التقت بالفنان المسرحي عزيز عيد، الذي تبنّى موهبتها وفتح لها باب المسرح، بداية من أدوار الكومبارس وصولاً إلى أول دور جريء لها، وهو دور “عجوز مسنّة” رفضت جميع الممثلات أداءه، فأبدعت فيه حتى صفق لها الجمهور طويلاً.

مجلة تحمل اسم امرأة…

عندما أطلقت المجلة، لم تكن تتجاوز صفحتين، لكنها سرعان ما أصبحت منبرًا جريئًا للآراء الحرة، تناولت السياسة والاجتماع والفن، ولم تتردد في الدفاع عن حقوق المرأة وطرح القضايا المسكوت عنها في ذلك الزمن، من حرية التعبير إلى العدالة الاجتماعية. كان الحبر فيها مقاوماً والكلمة سلاحاً.

لم تخضع روز اليوسف للتصنيفات المألوفة، بل شقت طريقًا خاصًا بها، متحدية النظرة التقليدية للمرأة، وملهمةً أجيالًا كاملة من الصحفيات والكاتبات والناشطات.

مدرسة للكفاءات الصحفية

لم تكن “روز اليوسف” مجرد مجلة، بل كانت مدرسة حقيقية في الصحافة والفكر، تخرج منها نخبة من أبرز الصحفيين والأدباء في مصر والعالم العربي. من بينهم:

إحسان عبد القدوس: الابن والكاتب، ورئيس تحرير المجلة لاحقًا، الذي تشرب من والدته روح الجرأة والحرية.

مصطفى أمين: أحد مؤسسي “أخبار اليوم”، بدأ مسيرته من روز اليوسف.

محمد حسنين هيكل: الصحفي الأشهر في تاريخ مصر الحديث، كتب في بداياته بالمجلة.

صلاح حافظ: أحد أبرز رؤساء تحريرها.

فتحي غانم، عبد الرحمن الشرقاوي، يوسف إدريس: أسماء لامعة جمعت بين الأدب والصحافة.

كما احتضنت المجلة رسامين كبارًا مثل صلاح جاهين وجورج بهجوري، وكانت منصة لأفكار تقدمية، يسارية أحيانًا، ومتحررة دائمًا.

أما وابن… ومدرسة في الحبر

خلف هذه السيرة الصاخبة، كانت روز اليوسف أيضًا أمًا للكاتب الكبير إحسان عبد القدوس، أحد أعمدة الأدب العربي الحديث. تربى إحسان وسط رائحة الحبر وضجيج المطابع، وتشرب من والدته روح الجرأة، وصدق الكلمة، ورفض النمطية.

قال عنها:

“أمي لم تكن فقط امرأة… كانت مؤسسة. علّمتني ألا أخاف وأنا أكتب.

وإذا كتب عن المرأة، كتبها كما عرفها فيها: قوية، مستقلة، عاشقة… ومتمردة.

إرث لا يمحوه الزمن

رحلت روز اليوسف سنة 1958، لكن المجلة التي أسستها ما زالت تصدر إلى اليوم، شاهدة على امرأة صنعت من اسمها مؤسسة. إرثها ليس مجرد صفحات في أرشيف الصحافة، بل بصمة فكرية وثقافية لا تزال حيّة، ودليل على أن صوت المرأة حين يعلو لا يُنسى.

خاتمة

في عالم الصحافة والإعلام، يلمع اسم روز اليوسف كواحدة من النساء القلائل اللواتي كسرن القيود وأعدن رسم حدود الدور النسائي في المجتمع العربي. لم تكن مجرد صحفية أو مؤسسة مجلة، بل كانت فكرة متقدمة على عصرها، ورمزًا

للجرأة والحرية والتمرد الخلاق.

قصة روز اليوسف ليست فقط عن امرأة اقتحمت ميدانًا يهيمن عليه الرجال، بل عن امرأة أنشأت مجلة وأنجبت كاتبًا، وخلّدت اسمها في الذاكرة الجماعية للصحافة العربية.

روز اليوسف، التي أنجبت مجلة وابنًا اسمه احسان عبد القدوس، لم تكن مجرد امرأة. كانت فكرة ملهمة.. ولا تزال.

 

 

 

 

 

Exit mobile version