عفة محمد
تتمايل الأجسام بعربة” المترو ” الذي ينخر بها انفاق مدينة باريس. و عند كل محطة تتدفق في عملية مد أمواج بشرية و في عملية جزر تصعد أخرى في نظام راق و متحضر، بحيث في بعض الحالات حينما يتوافد عدد كبير من الركاب، يقف الركاب الذين كانوا قاعدين و بحركة آلية و تلقائية على المقاعد القريبة من الأبواب فاسحين المجال للركاب الصاعدين.
و رغم الازدحام فالأعين تلازم صفحات الكتب والهواتف النقالة، ما عدا عيناي التي لا تحيد قيد أنملة على مسار الخط الالكتروني الظاهر على الأبواب و الذي يُبين تعاقب المحطات ، مخافة ان أفوت عني محطة الموعد ” تروكاديرو”.
و بعد دقائق معدودات بلغت محطتي المنشودة، و زادني اطمئنانا لما رأيت اسم “تروكاديرو” مكتوبا على قطع زليج حائطية.
رميت بجسدي في أمواج بشرية متلاطمة تلاطم النمل، سبحت ضمنها في موجة متجهة إلى مخرج النفق إلى أن طفت بي إلى السطح، و عند منعطف ممر تجلت لي ذات الرقبة الطويلة بعطرها الباريسي الذي يسبقها ليأسر كل من حاول رؤيتها من العشاق. و رغم كثرة العشاق الذين حجوا إليها من كل فج عميق، بادرت بمخاطبتي بلهجة عتاب :” لقد انتظرتك زمنا طويلا منذ زيارتك الأولى التي تعود لعام 1989، حين قدمت إلى مدينتي مع دفعتك لقضاء فترة تدريبية.. كما بحت لي وقتئذ .. و مجيئك اليوم يثبت لي بأنك لا زلت تعشقني ف- هيت لك”.
تسارعت دقات قلبي و كادت تخرق طبلتي أذناي عند سماع جملة ” هيت لك”، و خفت أن يقد كيدها قميص قلبي من أمام، فأدرت لها بظهري و أخرجت هاتفي و أخذت معها صورا لأثبت بها براءتي عند الاقتضاء .. لكن قميص قلبي لم يقد لا من أمام و لا من دبر..
تهكمت لسذاجتي ذات الرقبة الطويلة و خاطبتني :” أرأيت تمثال الرجل الجالس صوبي يرمقني من بعيد انه أحد عشاقي الكثر الذين يودون وصالي ما حييت، كان متيما بي و لا يبرح مكانه إلى ان تحول حجرا مع الزمن . فلا تخف و اقترب “٠
استرجعت رجولتي و أية رجولة أمام هذا القوام الشامخ غير ذي عوج ، ذي العنق الضارب في السماء المثبت فوق عنق طويل فقراته من حديد .. انتابتني حينها غشاوة عين فشبه لي أن ما وقع عليه نظري هو عنق امرأة من نساء قبائل ” كيان” اللاتي يشتهرن بطول رقباتهن الملفوفة بحلقات نحاس. فتساءلت كيف لمادة المعدن المتمثّلة في قطع الحديد أو حلقات نحاس أن تُخلْق من الطول جمالا؟..
تقدمت رويدا رويدا من ذات الرقبة الطويلة يجذبني عبق عطر باريسي لف جسدي في لفافات آلة الاكرديون تعزف تقاسيم فرنسية قديمة، جعل خيالي يتهادى ببعض أغاني اديت بياف.
Non! rien de rien…
Non! Je ne regrette rien !
Ni le bien qu’on m’a fait.
Ni le mal .tout ça m’est bien égal !
Non , rien de rien…
Non , je ne regrette rien !
و في لحظة وجدتني داخل رحمها مع مجموعة من العشاق نقبل الأضلع الحديدية التي لا تحصى . بين أدرع مصعد ضخم يصعد بالجميع ثلاث سموات و الكل ثمل بالروعة الهندسية للرقبة الطويلة، و لم نفق من هذا السكر إلا ان قذفنا رحمها إلى الخارج ، عندها أحسست بأنني ولدت من جديد و بأنني كنت في موعد تاريخي مع ذات الرقبة الطويلة موثق بالصورة أعلاه..
باريس18/07/2019