بقلم صلاح الوديع
1-
أعترف بأنني لم أكن أتوقع كل هذا.
كنت آمل دائما – وأنا أبسط رأيي في مجتمع اليوم والغد من زاوية التعايش بين الأديان في العالم – كنت آمل أن أجد بين مسئوليه غير المسلمين من يتفاعل معهم بقلبه المتوهج قبل عقله البارد ساعة الفجيعة…
وكنت عرضة للشك بل ولفقدان الأمل، خاصة لما عدت مؤخرا إلى تاريخ الحروب الصليبية ووقفت مجددا على الكوارث والجرائم التي اقترفتها – باسم الدين – دول الغرب المسيحي، خلال قرون، ضد بلدان المسلمين تحت حكم السلاجقة أو الفاطميين أو العباسيين أو الأيوبيين، سنيين وشيعيين …
إلى أن وقعت جريمة نيوزيلاندا الإرهابية ضد مسلمين عزل ورأيت بأم عيني كيف يمكن للقلب أن يتربع على قمم الحضارة الإنسانية…
2-
أعترف ثانية أن اسم نيوزيلاندا لم يكن يوما من أولوياتي. بل إن الجريمة المنكرة التي ارتكبها المجرم المقتنع بأفضلية جنسه على الآخرين، لم تتوفق في إيقاظ حب الإطلاع في نفسي… فالغرب ذو المرجعية الثقافية المسيحية لم يكن يوجد بالنسبة لي على خارطة العالم إلا شمالا…
إلى أن كان يوم الجمعة 22 مارس. ورأيت خلاله كما رأى العالم أجمع كيف تصرف غير المسلمين في تيوزيلاندا ضد الجريمة وتداعياتها…
بحثت عن معلومات حول البلد كما فعل آخرون.
وعلمتُ أنه يوجد هناك في الجنوب الغربي لأستراليا، على مرمى بضع موجات منها، ضمن البلدان التي لم تكتشف إلا متأخرة. استوطنها شعب “الماوري” بين القرن 11 و13 ووصلها المستوطنون الأوروبيون أواسط القرن 17.
ووجدت أنها أول بلد في العالم اعترف للنساء بحق التصويت وكان ذلك سنة 1893 ووجدت أنها بلد تحكمه النساء: الجليلة الرائعة جاساندا آردرن رئيسة الحكومة بعد أن عوضت السيدة باتسي ريدي. وتسردُ البطاقات المتوفرة عن البلد أسماء نساء أخريات حكمن البلد أو تقلدن فيه مسؤوليات كبرى: كاترين تيزار (1990 – 1996) وسلفيا كارترايت (2001 – 2006) وجيني شيبلاي (1997 – 1999) وهيلين كلارك (1999 – 2008) وأخريات وأخريات…
هناك “الماوري” الذين يشكلون 15 في المائة من السكان، حيث بإمكان النيوزيلانديين إعلان الانتماء داخل البلد للمجموعة التي يرتضونها داخل نفس الجنسية النيوزيلاندية، فيما يتوزع المسيحيون إلى 7 فرق مختلفة، يتعايشون في نفس البلد مع الهندوسيين والبوذيين والمسلمين… ولا يولي النيوزيلانديون أي قيمة للانتماء الديني عند تقلد المسؤولية العمومية، حيث يعتبر الدين مسألة شخصية لا غير.
3-
أعترف ثالثا أن ما شاهدته من معاني التضامن والمؤازرة مع عائلات ضحايا كريستشيرش من طرف نيوزيلاندا شعبا وحكومة فاق كل توقعاتي. يقف البلد كله ويحمي المصلين المسلمين في المساجد بعد الجمعة السوداء وتضع النساء شالات على رؤوسهن في وقفات بالآلاف ويرتفع الأذان في البرلمان وتقول الرئيسة في تأثر صادق بأن من يجب ذكر أسمائهم هم الضحايا لا القاتل، وتتوجه بصرامة إلى حاكم تركيا الذي تطاول على سيادة بلدها حين لوح ب”حقه” في القصاص من المجرم بطريقته…
4-
أعترف أخيرا أنني تعلمت الكثير من شعب نيوزيلاندا ورئيستها.
تعلمت أن هناك بشراً أقرب إلى نموذج الإنسان روحا وسلوكا وعدلا وآدمية. لا يهم من أي دين أو جنسية أو لون هو. هو إنسان وكفى.
واكتشفت أن لائحة قارات العالم التي تعلمناها في دروس الجغرافيا في صبانا يجب أن يتم تعديلها: هناك اليوم إفريقيا وآسيا وأوروبا وأمريكا وأستراليا… وهناك قارة جديدة هي: نيوزيلاندا.
5-
كتب محيي الدين ابن عربي منذ أكثر من سبعة قرون قصيدته النورانية الشهيرة،
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي .. إذا لم يكن ديني إلى دينه داني
لقد صارَ قلـبي قابلاً كلَ صُـورةٍ .. فـمرعىً لغـــــزلانٍ ودَيرٌ لرُهبـَــــانِ
وبيتٌ لأوثــانٍ وكعـــبةُ طـائـــفٍ .. وألـواحُ تـوراةٍ ومصـحفُ قــــــرآن
أديـنُ بدينِ الحــــبِ أنّى توجّـهـتْ .. ركـائـبهُ ، فالحبُّ ديـني وإيـمَاني
ربما لم يكن يتصور أن يصل صداها إلى أبعد بلدان الدنيا.
لقد وصل، فنعم الشاعر ونعمَ المتلقي.