نزار الفراوي
صور: أبو أحمد
دورة بعد أخرى، توطد الأيام الدراسية التي تنظمها الجمعية المغربية لنقاد السينما تقليدا محمودا يضع النقاد في موضع مساءلة ومقابلة اجتهاداتهم ومقارباتهم، وفي مواجهة روائع سينمائية عالمية يتم تفكيك أسرار خلودها الجمالي، وفي تفاعل مع سينمائيين مغاربة توجه لهم الدعوة لتبادل الأسئلة وكسر حاجز الصمت بين صانع العمل وناقده.
في دورتها الرابعة بمدينة إفران، وللمرة الثانية في رحاب مركز الملتقيات التابع لجامعة الأخوين، التأم جمع من النقاد المغاربة في برنامج مكثف على مدى ثلاثة أيام، تنوعت فعالياته بين عروض ومحاضرات ومناقشات معمقة لأفلام مخرجين عالميين، من قبيل المخرجين الراحلين الياباني كوروساوا من خلال فيلمه “أحلام” والروسي تاركوفسكي عبر “القربان”.
مناقشات تناسلت تحت شعار مضمر تلخصه العودة الى أساسيات اللغة السينمائية وخصوصياتها، واستقلاليتها في صناعة المعنى وتفجير الإحساس والكتابة بالمتخيل البصري مع التركيز على محور رئيس تمثل في مساءلة العلاقة بين التشكيل والسينما، هذا الفن السابع الذي احتوى مختلف الروافد التعبيرية وصهر خلاصات الفنون الإنسانية وأدواتها.
ولعل اختيار فيلمي كوراساوا وتاركوفسكي كان موفقا إلى حد بعيد بإجماع المشاركين، بالنظر إلى انفتاحهما على عوالم التشكيل، بشكل صريح من خلال إدماج لوحات عالمية فارقة في تاريخ الفن ضمن البناء الدرامي للفيلم، أو بشكل مضمر من خلال الرؤية التشكيلية الخصبة للمخرجين في صناعة الإطار وتأثيثه بالضوء واللون والمدى فضلا عن تموقع العناصر المرئية وغير المرئية داخل الإطار.
جاءت الأيام أشبه بمحطة إنعاش للذاكرة ونوستالجيا لتاريخ المشاهدة في أحضان حركة الأندية السينمائية وزمن الإيمان بالقوة التغييرية للسينما الجادة، برغم ما شاب هذه المرحلة السبعينية من تخندق إيديولوجي واضح. تحدث المخرج سعد الشرايبي عن “الصورة والفن التشكيلي” مستنطقا المفاهيم والرؤى الموحدة بين السينما والتشكيل، من خلال مخرجين عالميين مثل كوروساوا وفيسكونتي وكوبريك دون أن يفوته التوقف عند تجارب محلية جسدها أساسا المخرج المغربي المتميز الجيلالي فرحاتي الذي توغل في “تشكيل” إطارات أفلامه، بما يجعل الفوتوغرامات المقتطعة من بعض أعماله لوحات قائمة الذات.
لم يتعلق الأمر إذن بحصر الحديث عن أفلام عالمية استعادت سير وتجارب فنانين تشكيليين أو وظفت لوحات تشكيلية معروفة، بل بشكل أعمق، برصد كيفية استيعاب السينمائي لخصوصية التعبير التشكيلي وقواعده في رسم إطار الفيلم وصنع العلاقات بين العناصر وفي البناء الدرامي للعمل إجمالا، من منطلق أن اللوحة ، وإن كانت ثابتة، فهي تقص حكاية، بآلياتها الخاصة.
وجاء الباحث بنيونس عميروش ليقارب بدوره حدود الوصل والتقاطع في علاقة السينما بالتشكيل، مقدما قراءة معاكسة حول تأثر التشكيليين أيضا بالسينما، التي شكلت تحديا جديدا بالنسبة لهم. وتوقف في هذا الصدد عند تجارب الرسامين المستقبليين الذين حاولوا مجاراة الفن السينمائي ومحاكاة الامتياز الذي حققه الفيلم، من خلال عنصر “الحركة”. كان الرهان حينئذ بالنسبة لهؤلاء التشكيليين محاولة صناعة “وهم الحركة” داخل إطار اللوحة.
وتواصل مسار الرؤى المقارنة لعلاقة السينما بالتشكيل برصد جسور الضوء واللون والعمق البصري والشعري لدى تاركوفسكي في محاضرة “استطيقا الإطار”
للناقد حمادي كيروم من خلال فيلم “القربان”، ولدى المخرج الكوري إيم كوون طاييك في فيلمه “ثمل من النساء ومن الرسم”، من خلال مناقشة نشطها الناقد بوشتى فرقزايد. أجواء النقاش والتبادل الخلاق التي طبعت جلسات اللقاء لم تخل من حدة وسخونة على هامش العرض الخاص للفيلم الجديد “الميمات الثلاث..قصة ناقصة” لسعد الشرايبي. لكنها أجواء تعكس إلى حد بعيد مستوى من النزاهة الأدبية والحرص على احترام المسافة الأخلاقية بين صناعة الفيلم ونقده، بين المخرج والناقد.
لقد سجل النقاد المشاركون بتنويه جم مبادرة الشرايبي بتقديم عمله الجديد لأول مرة داخل هذا المحفل النقدي في أفق الاستفادة من الملاحظات والمؤاخذات الممكنة، في تعبير عن شجاعة إبداعية وإيمان بإمكانية ربط جسور تبادل مثمر بين الفعل الإبداعي والنقدي. غير أن ذلك لم يمنع بعض المتدخلين من الإدلاء بانتقادات صريحة لمستوى اللغة السينمائية للفيلم الذي يتناول قصة نصف قرن من تاريخ المغرب وصولا إلى مرحلة الربيع العربي، من خلال مسارات ثلاث شخصيات، مغربية مسلمة، مغربي يهودي وفرنسي ولد بمغرب الاستعمار.
الإغراق في “الثرثرة”، “تضخم” الموضوع الفيلمي الذي يكاد يتوقف في مزيج وثائقي وتخييلي عند معظم الأحداث الكبرى التي عرفها التاريخ المغربي والعربي بل والعالمي على مدى نصف قرن، اختلالات في “الكاستينغ”، وفي رسم الشخصيات…تلك نماذج من الانتقادات التي وجهت للفيلم الذي تطلب مع ذلك مجهودا كبيرا على مستوى الإعداد، خصوصا من وجهة النظر التاريخية. ملاحظات تفاعل معها بصدر رحب المخرج سعد الشرايبي الذي أصر على أن طبيعة الموضوع هي ما يفرض الأسلوب الفيلمي، الذي لا يحتمل في هذه الحالة مجالات للغة شعرية ومساحات للصمت مما يعتاد عليه السينيفيلي في الأعمال الكلاسيكية.
لتخل الأيام السينمائية من لحظات مؤثرة. على غرار باقي الدورات، يكتشف المخرجون المدعوون تهافت الحاجز النفسي ووهميته مع الناقد، بقدر ما يكتشف الناقد ذلك الإنسان الكامن خلف المخرج، بحيرته بين طموحات بعيدة وامكانيات محدودة. كان لقاء بين أجيال لا تنصت لبعضها. المخرج الشاب رؤوف الصباحي، إلى جانب المخرجة خولة بنعمر، قال إن المشاركة في اللقاء أشبه بميلاد جديد في حضن آباء لا يعادون بالضرورة شبابا يبحث عن هويته وأسلوبه في المشهد السينمائي الوطني والكوني.