مقاربة نقدية لرواية ساعة الصفر للكاتب عبد المجيد سباطة
عشقت الحرف منذ طفولتي، فجعلت الكتاب أنيسي ورفيق دربي، به تغذت روحي وانتعشت مشاعري. أنا مَنْ أَوْقَفَ الزمن لِيَرْوِي حكاية شعب أُبِيدْ، ليروي قصةً تعود إلى زمن بعيد ، ليسافر بكم من عين اللوح إلى موستار عبر لحن يَنْشُدُ التغريد. أنا عبد المجيد سباطة صاحب ساعة الصفر. قَسَّمْتُ روايتي إلى ثلاثة أجزاء ، وقد بدأتها بكلمة لعبد الرحمان منيف تختزل مضمونها، يقول : (من يقرأ الماضي بطريقة خاطئة سوف يرى الحاضر والمستقبل بطريقة خاطئة أيضا، ولذلك لابد ان نعرف ما حصل كي نَتَجَنَّبَ وقوع الخطأ مرة أخرى، ومن الغباء أن يدفع الإنسان ثمن الخطأ الواحد مرتين).
يبدو من النظرة الأولى لغلاف الرواية، ان الكاتب سعى إلى تأسيس علاقة تعاقدية واضحة بينه وبين المتلقي، إذ صرح بجنس النص فهو (رواية)، وقد جاء مكتوبا أسفل الغلاف مباشرة تحت العنوان. وبالتالي فهو عمل يتداخل فيه الواقعي بالمتخيل، إذ يلفي القارئ ذاته مشدودا إلى عنوان يحمل دلالة رمزية على توقف الزمن. واستكناه الزمن لن يتأتى إلا بالاطلاع على المضمون. فالسؤال الذي فرض ذاته علينا منذ البداية هو عن أي زمن سيتحدث الكاتب؟ أهو الزمن الحقيقي أم زمن افتراضي من وحي مخيلته ؟ إن الإجابة عن هذا السؤال تجعل القارئ يقف عند احتفاء الرواية بلغة الضاد، ما يدل على أن الكاتب متمكن من لغته الأصل، ثم إن هذا الأخير اعتمد بناء سرديا متقنا تمثل في خرق شرط البطل النموذجي في الرواية العربية، حيث تبنى الكاتب عبد المجيد سباطة “الراوي المجهول” بطلا لروايته وهي تقنية جديدة برؤية فلسفية، كما ان الرواية جاءت زاخرة بكم هائل من الأحداث .
تبدأ أحداث الرواية بعثور السلطات البوسنية على مقبرة جماعية بقرية قرب أميرة البلقان تدعى لوتا ، وهي إحدى القرى المنسية الواقعة في الجنوب الغربي من سراييفو، ضمت رفات سبعة أشخاص، وحقيبة جلدية نجت من التلف فيها ساعة يدوية توقفت عقاربها عند ساعة الصفر، وبوصلة صَدِئَة، وقلم حبر منتهي الصلاحية، وفي جيبها السري وجدت مفاجأة هي عبارة عن أوراق مصفرة اللون، مكتوبة باللغة العربية التي لا يفهمها إلا القليل من البوسنيين، وكراسة تمزقت بعض أوراقها، وخريطتين واحدة للبوسنة قبل التقسيم، والأخرى لعاصمة سراييفو.
مباشرة بعد ذلك سيتصل قاسم ديفيتش بصديقه أستاذ التاريخ ورئيس قسم مخطوطات في جامعة سراييفو، ليوكل إليه مهمة صيانة الأوراق وقراءة محتوياتها بحكم دراسته للغة العربية، في محاولة لفك الغموض المحيط بالمقبرة الغريبة، هذا الأخير يقرر نشر هذه المذكرات، لأسباب يترك للقارئ معرفتها كما يعلق في مقدمته لنشر هذه المذكرات.
توزعت الرواية بين ثلاثة أجزاء، ولادة، تيه، ثم موت. نتابع من خلال هذه المذكرات تفاصيل حياة طبيب جراح، يمتنع من ذكر اسمه! يروي أحداثا مروعة، عن مجازر البوسنة التي ارتكبت في حق أهلها من قبل الصرب، وسيكون شاهدا على ما حدث، إذ أوكلت إليه مهمة مراقبة الوضع الصحي، مع التزام الحياد كما أكد عليه الضابط الكندي المسؤول الأممي الذي أوكلت له مهمة حمايته. يبوح لنا الطبيب من خلال مذكراته عن تفاصيل أخرى معقدة ومثيرة، حيث يحاول معرفة جدوره بعدما ماتت أمه وتركت له إشارات هى من خيوط العنكبوت، بضع صفحات من مذكراتها تروي بعض التفاصيل عن حياتها والأسباب الكامنة وراء هجرتها من الجزائر والاستقرار بجنوب فرنسا.
يقرر الطبيب البحث عن الحقيقة ليدخل في متاهات من الحيرة والتفكير، ليجد نفسه منتقلا بين مرسيليا والرباط، وجبال الأطلس وبالضبط قرية عين اللوح، في محاولة منه لمعرفة حقيقة ماضيه الذي غشيته أتربة النسيان. يبدو أن ناشر المذكرات، أجاد في وضع ترتيب معين لها أثناء نشرها، مما أضفى عليها طابع التشويق، حيث يجد القارئ نفسه يتنقل عبر أزمنة وأمكنة مختلفة، حتى لا يمل وهو يتابع تفاصيل حياة هذا الطبيب المحيرة. حياة الطبيب تكشف عن معاناة إنسانية حقيقة ومؤلمة! حيت نجد أن الجزء الأهم في مذكراته هو ما يتعلق بتفاصيل الحرب في أميرة البلقان، باعتباره كان شاهدا على الوضع آنذاك، حيث يطلعنا على عدة قضايا مثيرة كالاغتصابات الهمجية كما في قضية أميرة، والهجوم بالقذائف دون التمييز بين الأماكن أو الأيام أو حتى الفئات المستهدفة، حيث نقرأ في المذكرات، الهجوم على المقبرة وكذلك الهجوم على تجمعات الاحتفال بيوم عيد ميلاد المسيح! كما نقرأ تفاصيل موت الشيخان اللذان أوصلا أميرة الى المستشفى، كان الناشر عند كل حادثة مهمة يتدخل في الهامش ليؤكد أو يصحح أو يضيف بعض المعلومات الواردة في المذكرات.
في خضم هذه الأحداث تناول الكاتب الأوضاع في الجزائر في ستينيات القرن الماضي، والمذبحة التي تعرض لها الفرنسيون قبيل الاستقلال، ثم الحكاية التي نسجت في مدينة مرسيليا، والتي تعود جذورها إلى عين اللوح قلب جبال الأطلس، والتي جعلت الراوي المجهول يتخلى عن حاضره للبحث عن فك لغز ماضيه الذي أفصحت عن بعضه والدته في مذكراتها. فتتوقف عقارب ساعته على قنطرة أبي رقراق بعد ان وجد نفسه في دوامة العشق الممنوع بينه وبين جيهان وخطيبها العائد من معتقلات تندوف.
أكثر ما يشد القارئ إلى الرواية هو الزمن والتاريخ، الذي يأخذ منحى فلسفيا واقعيا إذ الحقيقة الأدبية في الرواية لا تختلف عن الحقيقة التاريخية التي عاشها البطل في رحلته عبر أحداث الرواية. فباستقرائنا لها وجدناها متعددة الأصوات، كما الأحداث والحقائق، هذه الحقائق التي ارتبطت بالشخوص، فكل شخصية داخل الرواية انطوت على حقيقة ما، وهذه الحقيقة ارتبطت بحقائق أخرى لشخصيات أخر. وهو ذاته بالنسبة للأمكنة، فكل مكان داخل الرواية يعج بحقائق متعددة ومتنوعة ويحيل على تاريخ وزمن معينين.
إن تفكيك الرواية يتطلب الوقوف مطولا عند السمات الذاتية والنفسية للقوى الفاعلة كما يستدعي تحليل الأحداث، وربطها بالأزمنة والأمكنة. دون إغفال رمزية الخطاب، لأن الوقت فيه يظل شيفرة يصعب فكها، ولعل مرد ذلك إلى شساعة الرواية، وهو نفسه الذي لم يسمح بالوقوع في الرتابة، إذ اعتمد عبد المجيد سباطة على تقنيتي الاسترجاع والاستباق في سرده للأحداث وهوما جعله أيضا يبتعد عن تراتبية هذه الأحداث ليظل أكثر ما ميز الرواية هو تلك التوليفة بين جموح المتخيل، وسطوة الواقع الشيء الذي يصعب مسألة تصنيفها في إطار روائي معين.
لقد انطوت الرواية على رهانين:
- الأول هو تتبع التاريخ في دورته بحيادية وموضوعية فهو مرتبط بالماضي والحاضر ولا يتأتى فهم الحاضر إلا باستيعاب ما وقع في الماضي ولعل ذلك ما رمزت إليه الساعة اليدوية التي توقفت عند لحظة معينة. وافتتاح الكاتب للرواية بقولة عبد الرحمان منيف خير دليل على ذلك
- والثاني توظيف الدين كذريعة لتأجيج الصراع الطائفي القومي السياسي ليكشف فيما بعد فظاعة الجرائم المرتكبة باسمه، وما البوسنة والهرسك إلا نموذج لما يشمل العالم من حروب.