أبي والقذافي: الحقيقة التي رفضت أن تُدفن

جيهان الكيخيا… حين يتحوّل الفقد إلى فيلم يكشف الحقيقة

هذا الصباح كنا على موعد مع فيلم مختلف تمامًا، فيلم لا يُشاهَد فقط، بل يُعاش: “أبي والقذافي”. عمل وثائقي باذخ في صدقه، تحكيه الأصوات التي عاشت الجرح واحتفظت بذاكرته. يعود بنا الفيلم إلى لغز اختفاء واحد من أبرز معارضي نظام القذافي، السياسي الراحل منصور رشيد الكيخيا، ذلك اللغز الذي تاه بين ملفات المخابرات المصرية والأمريكية، واستقر أخيرًا في دهاليز نظامٍ لا يتردد في إخفاء الحقيقة خلف الجدران الباردة.

الفيلم هو كما وصفه النقاد، نقطة انطلاق لا نهايته: بداية لفهم القصة  ولتفكيك الصمت، ولإعادة كتابة ما أخفته الرواية الرسمية.

بسينما دقيقة تُمسك بالخيط الرفيع بين البحث والاعتراف، تقدّم المخرجة جيهان الكيخيا، ابنة الراحل، عملًا يوثّق الحكاية التي حملتها على كتفيها سنوات طويلة، لتعيد ترتيب المبعثر، وتمنح الغائب صوتًا وصورة وذاكرة تستحق أن تُروى.

عُرض فيلم “أبي والقذافي” هذا الصباح، ضمن المسابقة الرسمية للدورة 22 لمهرجان الفيلم الدولي بمراكش، بحضور المخرجة جيهان الكيخيا ووالدتها وشقيقتها والمنتجة. اكتفت جيهان ببضع جُمل مقتضبة حول تجربتها وفيلمها و مشاركتها بمهرجان مراكش، بينما بدت الوالدة صامتة، وكأنها تحمل فقط صفة “أرملة الراحل”… قبل أن يكشف الفيلم عن امرأة استثنائية من أصول سورية، عاشت في الولايات المتحدة، وهناك التقت بزوجها منصور الكيخيا. جمعتهما قصة حب و قضايا النضال من أجل فلسطين وحقوق الإنسان، قبل أن تُلقي بهما المأساة في مسار آخر.

بعد اختفاء منصور، حملت الزوجة وحدها عبء البحث عنه، في الوقت الذي خذله كثير من رفاقه. وقد منحت ذاكرتها القوية للفيلم مادة إنسانية نادرة؛ إذ ظهرت منذ الدقائق الأولى في جلسة حميمة مع ابنتها، تستحضر شريط ليلة السفر إلى القاهرة… الرحلة التي لم يعد منها. تعيد الأم رسم تفاصيل تلك الساعات، وترافقنا في رحلة بحث مضنية بين القاهرة، حيث اختُطف خلال مشاركته في لقاء حول حقوق الإنسان باعتباره أحد مؤسسي هذا الإطار الحقوقي، وبين مسارات سرية انتهت بلقاءات مباشرة مع القذافي، وما تكشّف بعدها من حقائق قاتمة.

ومع سقوط نظام القذافي، بدأت خيوط اللغز تتضح. ليظهر أن جثمان الراحل كان محفوظًا في مجمد داخل إحدى الفيلات التي شهدت سهرات يشوبها الفساد والدسائس… هناك فقط، انتهت رحلة بحثٍ استمرت سنوات، لتبدأ حكاية أخرى: حكاية إعادة الاعتبار للذاكرة، ولرجل دُفع ثمن مواقفه حتى النهاية.

الفيلم، الذي عرض اليوم،  أظهر قوة المخرجة على تحويل قصة سياسية معقدة إلى سرد إنساني يمسّ كل من عرف معنى الفقد. واليوم في مراكش، يكتشف الجمهور عملاً مؤثرا، نجح في الجمع بين الشجاعة والحميمية، ويمنح السينما العربية واحدًا من أهم أفلامها الوثائقية الحديثة.

 

Exit mobile version