في زمنٍ يفيض بالضجيج والسرعة، في عالمٍ مفتوحٍ على اللامعنى، وجدت نفسي أبحث عن خيطٍ يقودني نحو السكينة.
كلّ شيء من حولنا يصرخ: الأخبار، الشاشات، الأحكام، المقارنات، وحتى الصمت لم يعد صامتًا، بل امتلأ بضجيج داخلي لا يُرى.
صرنا نركض لأننا نخاف أن نتأخر، ونتحدث كثيرًا لأننا نخاف أن نصغي لأنفسنا.
هكذا تاهت النفس بين ما تريد وما يُفرض عليها، بين ما يمكن تغييره وما لا يُمكن.
في هذا التيه، اكتشفت الفلسفة الرواقية، لا كفكرة تُقرأ، بل كطريقٍ يُعاش.
ولدت الفلسفة الرواقية من رحم الصخب الإنساني، لتعلّم الإنسان كيف يهدأ في قلب العاصفة. نشأت في اليونان القديمة في القرن الثالث قبل الميلاد، على يد الفيلسوف زينون الكيتيومي، الذي كان يدرّس تلاميذه في رواق ملوَّن بأعمدة مزخرفة في أثينا يُسمّى باليونانية Stoa Poikilê، أي “الرواق الملوّن”. ومن هنا جاءت تسميتها بـ الرواقية (Stoïcisme)، أي فلسفة الذين يتأملون ويعلّمون في “الرواق”
لم تكن الرواقية نظرية جامدة، بل منهجًا للحياة، وسلوكًا عمليًا لتحقيق السلام الداخلي في عالم مليء بالاضطراب..
الرواقية، التي وُلدت في “الرواق الملوَّن” بأثينا، لا تعلّمنا كيف نهرب من العالم، بل كيف نعيش فيه دون أن نغرق في فوضاه.
أن نميّز بين ما نقدر على تغييره وما لا نقدر، أن نُهذّب انفعالاتنا بدل أن نسجن داخلها، وأن ندرك أن الفضيلة هي الخير الوحيد، والباقي تفاصيل تتبدّد مع الوقت.
ما تحمله الرواقية من جوهرٍ بسيط، هو ما يبحث عنه كلّ إنسانٍ اليوم دون أن يسميه:
الخلاص من التشتت، من الضغوط، من الضجيج الذي يجعلنا نحيا كمن يسير فوق رمادٍ حار.
ولعلّ أكثر ما شدّني إليها أنها لا تعدنا بعالمٍ مثالي، بل بتوازنٍ ممكن وسط الفوضى.
أن نتقبّل ما لا يمكننا تغييره، لا كاستسلام، بل كفهمٍ أعمق لحدودنا كبشر.
تعلّمت منها أن السيطرة الحقيقية لا تكون على الآخرين ولا على الأحداث، بل على الذات.
أن الغضب، والخوف، والغيرة، ليست أعداءنا، بل مرايا تكشف هشاشتنا.
أن نغضب يعني أن نمنح ما يحدث أكثر من حقه، وأن نهدأ يعني أن نستعيد أنفسنا من قبضة الخارج.
كم مرة حاولتُ أن أغيّر ما لا يُغيَّر، فانهزمت، حتى فهمت أن بعض المعارك ليست للهزيمة أو الانتصار، بل للفهم فقط.
في لحظةٍ ما، أدركت أن ما يحدث لي لا يملك قوتي إلا إذا سمحت له.
أن السلام لا يُمنح، بل يُكتسب من داخل النظرة، من الطريقة التي نقرأ بها الحياة لا من الحياة نفسها.
كلّ ما يبدو نهايةً قد يكون بدايةً متخفّية، وكلّ فقدٍ مساحةٌ للفهم والنضج، وكلّ سقطةٍ نهوضٌ آخر، لا يشبه ما قبله، لأننا لا نقوم كما كنّا، بل كما أصبحنا.
تجاوزت الرواقية اليوم حدود اليونان وروما، وتجاوزت الزمن، فتبناها كبار المفكرين والمبدعين، لأنها ليست فلسفة للتاريخ، بل فنّ للحياة.
تعلمنا أن نعيش بسلامٍ في وجه ما لا يمكن تغييره، وأن نختار الوعي بدل الانفعال، والفهم بدل الشكوى، والاتزان بدل الاندفاع.
فالطمأنينة لا تُستورد من الخارج، بل تُزرع في الداخل، حيث يتعلّم القلب كيف يصمت، وكيف يرى، وكيف يعفو عن العالم كي ينجو منه.
