شفشاون… من قال إن الشعر يُؤجَّل؟

أتاي الأحد

بقلم: عبد الرفيع حمضي

جاء إعلان جمعية أصدقاء المعتمد بشفشاون عن تأجيل الدورة السادسة والثلاثين من المهرجان الوطني للشعر المغربي الحديث محبطًا للعديد من المتتبعين والفاعلين وعموم المثقفين في المغرب.

ليس لأن التأجيل في حد ذاته مستغرب — فذلك وارد في زمن الأزمات — بل لأن السبب المعلن: غياب الدعم، رغم بساطته، يطرح أكثر من سؤال حول موقع الثقافة في سلم أولويات السياسات العمومية.

هل من الطبيعي أن يتوقف مهرجان شعري يُعدّ من أعرق المواعيد الثقافية في المغرب، دون أن يُحرّك أحد ساكنًا؟

وهل يُعقل أن تفقد مدينة كرّمتها اليونسكو سنة 2017 كمدينة إبداعية في الفنون التقليدية، أبرز موعدها الشعري السنوي، وكأنه حدث عابر.

هل نحتاج فعلًا من يذكّرنا من هو المعتمد بن عباد؟

ذلك الشاعر الذي حكم وأحبّ وقاوم، ثم خُلّد بالشعر لا بالسلطان، فحملت جمعية أصدقاء المعتمد اسمه وفاءً لرجل جمع بين تاج الحكم وريشة القصيدة.

وها نحن اليوم، لا نجد من يحفظ لهذا الاسم رمزيته، لا في ميزانيات الجماعات، ولا في أجندات القطاعات المعنية.

المهرجان الوطني للشعر المغربي الحديث ليس تظاهرة موسمية عابرة، بل جزء من ذاكرة ثقافية جماعية.

فخلال خمسة وثلاثين دورة، احتضن تجارب شعراء مغاربة من مختلف الأجيال والمدارس، وفتح نوافذ للحوار والتفاعل بين النص والمدينة.

لأن شفشاون ليست فقط مدينة شعراء، بل وجهة متجذرة في السياحة الثقافية والروحية.

يقصدها الزوار لا لجمال طبيعتها فقط، بل لسكينة أزقتها، وحضرة نسائها، وترانيمها الصوفية، وهوائها الأندلسي العتيق.

ففي كل ليلة خميس، تعلو الحضرة الشاونية، نساءً وصوتًا وإيقاعًا، في واحد من أجمل مشاهد الروحانية النسائية بالمغرب.

شفشاون التي تأسست كحصن للمجاهدين، وملاذ للأندلسيين الفارين من الاضطهاد بعد سقوط غرناطة، كانت منذ نشأتها مدينة ذات رسالة.

جمعت بين الروح الأندلسية، والعلم، والمقاومة. وكانت بوابةً للداخل المغربي، وذاكرةً مفتوحة على المتوسط.

حتى جاءت السيدة الحرة، الحاكمة الأندلسية المثقفة، التي ارتبط اسمها بالمقاومة والكرامة والقيادة.

رفضت الخضوع للهيمنة الإسبانية، واستقالت من الحكم بإرادتها في سابقة سياسية وأخلاقية نادرة.

السيدة الحرة ليست فقط صفحة في كتب التاريخ، بل روح تسكن جدران المدينة.

 

وما يجعل هذا التأجيل أكثر إيلامًا، هو أن جمعية أصدقاء المعتمد ليست جمعية عابرة، ولا وُلدت في ظل ريع الدعم أو دفء المؤسسات.

بل تأسست في مطلع الستينات، حين كانت الكلمة تُحرس بالخوف، وتُوزن بالحذر، في مغرب كان يشق طريقه وسط العواصف والمنعرجات، كما وثّقها لاحقًا تقرير هيئة الإنصاف والمصالحة.

كم من جمعية أغلقت أبوابها، وتبخر أملها، بينما جمعية أصدقاء المعتمد صمدت، واستمرت.

لا لأنها تملك مالًا أو نفوذًا، بل لأنها آمنت برسالة واضحة:

أن الشعر يمكن أن يكون وطنًا بديلًا حين يضيق الوطن، وأن الثقافة ليست ترفًا بل فعلُ إيمان عنيد بالمعنى في زمن اللا معنى.

قال جلالة الملك محمد السادس في خطاب عيد العرش لسنة 2014:

“الرأسمال غير المادي لا يقل أهمية عن الرأسمال المادي في خلق الثروات وتحقيق التنمية الشاملة والمستدامة.”

فهل هناك تجسيد أوضح لهذا المفهوم من مهرجان شعري ظلّ يحرس هوية مدينة، ويوقظ في الأجيال حسّ الانتماء والإبداع؟

في الوقت الذي تعجز فيه جهةٌ بأكملها عن إنقاذ دورة شعرية من التأجيل، تواصل مدن كثيرة حول العالم وضع الثقافة في صلب رؤاها التنموية.

مهرجان بابل في العراق، ميديلين في كولومبيا، ستروغا في مقدونيا…

مهرجانات تُنظَّم في مدن متوسطة أو صغيرة، لكنها اختارت أن تجعل من الشعر جزءًا من كرامتها الجماعية.

 

أما مدن مثل إدنبره، أفيينيون، بولونيا، فقد فهمت أن الثقافة ليست ديكورًا بل أداة بناء حقيقية.

“الحضارات فانية، وما ينقذها هو الثقافة.” — بول فاليري.

فأين موقع شفشاون اليوم من هذا التصور؟

أليست هي المدينة التي لا تملك من الثروات سوى جمالها، وتراثها، وشعرها؟

إذا لم تحمِ هذه المدينة رأسمالها غير المادي، فمن سيفعل؟

وإذا لم يتحول مهرجانها الشعري إلى شأن عام، تدافع عنه السياسات العمومية، وتؤمّن استدامته، فمتى سنفهم أن الثقافة ليست زينةً على الهامش، بل هي أصل الحكاية؟

الأسئلة كثيرة، والمرارة أكبر.

أما القصائد، فستُلقى في الظل، حيث لا دعم، ولا منصة، ولا أضواء…

لكنها، رغم كل شيء، لن تصمت.

Exit mobile version